على فراقه، وعبّر بقوله عبدًا بالتنكير ليظهر نباهة أهل العرفان في تفسير هذا المبهم فلم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به فبكى. وقال: بل نفديك بأموالنا فسكن الرسول جزعه (فقال) ولغير الأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني قال: (يا أبا بكر لا تبك) ثم خصّه
بالخصوصية العظمى، فقال:(إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر) بفتح الهمزة والميم وتشديد النون من أمنّ أي أكثرهم جودًا بنفسه وماله بلا استثابة ولم يرد به المنّة لأنها تفسد الصنيعة، ولأنه لا منّة لأحد عليه عليه الصلاة والسلام، بل منّته والله على جميع الخلائق.
وقال القرطبي: هو من الامتنّان يعني أن أبا بكر رضي الله عنه له من الحقوق ما لو كان لغيره لامتنّ بها، وذلك لأنه بادر بالتصديق ونفقة الأموال وبالملازمة وبالمصاحبة إلى غير ذلك بانشراح صدر ورسوخ علم بأن الله ورسوله لهما المنّة في ذلك، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام بجميل أخلاقه وكرم أعراقه اعترف بذلك عملاً بشكر النعم، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي مرفوعًا:"ما لأحد عندنا يد إلاّ كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة".
(ولو كنت متخذًا خليلاً) أي أختار وأصطفي (من أمتي) كذا للأربعة ولغيرهم: ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً (لاتخذت) منهم (أبا بكر) لكونه متأهلاً لأن يتخذه عليه الصلاة والسلام خليلاً لولا المانع، وهو أنه عليه الصلاة والسلام امتلأ قلبه بما تخلّله من معرفة الله تعالى ومحبته ومراقبته حتى كأنها مزجت أجزاء قلبه بذلك فلم يتّسع قلبه لخلّة غير الله عز وجل، وعلى هذا فلا يكون الخليل إلاّ واحدًا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلّق القلب به فهو حبيب، ولذلك أثبت عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وعائشة رضي الله عنهما أنهما أحبّ الناس إليه ونفى عنهما الخلّة التي هي فوق المحبة، وللأصيلي: لاتخذت أبا بكر يعني خليلاً. (ولكن أخوّة الإسلام) أفضل، وللأصيلي ولكن خوّة الإسلام بحذف الهمزة نقل حركة الهمزة إلى النون وحذف الهمزة فتضم فينطق بها كذلك، ويجوز تسكينها تخفيفًا فيحصل فيها ثلاثة أوجه سكون النون مع ثبوت الهمزة على الأصل، ونقل ضمة الهمزة للساكن قبلها وهو النون والثالثة كذلك، لكن استثقلت ضمة بين كسرة وضمة فسكنت تخفيفًا فهذه فرع الفرع. (ومودّته) أي مودّة الإسلام وهي بمعنى الخلة، والفرق بينهما باعتبار المتعلق، فالمثبتة ما كان بحسب الإسلام، والمنفية بجهة أخرى يدلّ عليه قوله في الحديث الآخر: ولكن خلة الإسلام أفضل والمودّة الإسلامية متفاوتة بحسب التفاوت في إعلاء كلمة الله تعالى، وتحصيل كثرة الثواب. ولا ريب أن الصديق رضي الله عنه كان أفضل الصحابة رضي الله عنهم من هذه الحيثية. (لا يبقين في المسجد باب) بالبناء للفاعل والنون مشدّدة للتأكيد وباب رفع على الفاعلية والنهي راجع إلى المكلفين لا إلى الباب فكنّى بعدم البقاء عن عدم الإبقاء لأنه لازم له كأنه قال: لا يبقه أحد حتى لا يبقى، وفي نسخة لا يبقين مبنيًّا للمفعول، فلفظ باب نائب عن الفاعل أي لا يبق أحد في المسجد بابًا، (إلاّ) بابًا (سدّ) بحذف المستثنى المقدّر ببابًا والفعل صفته وحينئذ، فلا يقال الفعل وقع مستثنى ومستثنى منه ثم استثنى من هذا فقال:(إلاّ باب أبي بكر) الصديق رضي الله عنه بنصب باب على الاستثناء أو برفعه على البدل، وفيه دلالة على الخصوصية لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه بالخلافة بعده عليه الصلاة والسلام والإمامة دون سائر الناس، فأبقى خوخته دون خوخة
غيره، وهو يدل على أنه يخرج منها إلى المسجد للصلاة كذا قرّره ابن المنير، وعورض بما في الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "سدّوا الأبواب إلاّ باب علّي".
وأجيب بأن الترمذي قال إنه غريب. وقال ابن عساكر: إنه وهم لكن للحديث طرق يقوّي بعضها بعضًا، بل قال الحافظ ابن حجر في بعضها إسناده قوي وفي بعضها رجاله ثقات، وفيه أن المساجد تُصان عن تطرّق الناس إليها في خوخات ونحوها إلاّ من أبوابها إلاّ لحاجة مهمة، وسيكون لنا عودة إن شاء الله تعالى إلى ما في ذلك من البحث