إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أنزل عليه الليلة قرآن) يريد قوله تعالى:{قد نرى تقلُّب وجهك في السماء}[البقرة: ١٤٤] الآيات. (وقد أُمر) بضم الهمزة فيهما عليه الصلاة والسلام (أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها) بكسر الموحدة فيهما على الأمر في الثاني وتفتح فيه على الخبر وضمير الفاعل على كسرها لأهل قباء وعلى فتحها عليهم أو على أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المصلّين معه (وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة) بأن تحوّل الإمام من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخره ثم تحولت الرجال حتى صاروا خلفه وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال ولم تتوالَ خطاهم عند التحويل بل وقعت مفرقة.
والحديث سبق في الصلاة ومطابقته في قوله: إذ أتاهم آتٍ لأن الصحابة قد عملوا بخبره واستداروا إلى الكعبة.
وبه قال:(حدّثنا يحيى) بن موسى البلخي قال: (حدّثنا وكيع) هو ابن الجراح (عن إسرائيل) بن يونس (عن) جده (أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن البراء) بن عازب -رضي الله عنه- أنه (قال: لما قدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة) في الهجرة من مكة (صلّى نحو) أي جهة (بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا) من الهجرة (وكان) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يحب أن يوجه) بضم التحتية وفتح الجيم مشددة مبنيًّا للمفعول أي يؤمر بالتوجه (إلى الكعبة فأنزل الله تعالى: {قد نرى تقلّب وجهك في السماء}) أي تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود لأنها أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومطافهم ومزارهم ({فلنولينك}) فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس ({قبلة ترضاها}) تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله وحكمته (فوجه) بضم الواو وكسر الجيم (نحو الكعبة وصلى معه رجل) اسمه عباد بن بشر كما عند ابن بشكوال أو عباد بن نهيك (العصر). ولا تنافي بين قوله هنا العصر وقوله في السابقة الصبح بقباء لأن العصر ليوم التوجه بالمدينة والصبح لأهل قباء في اليوم الثاني (ثم خرج فمرّ على قوم من الأنصار) يصلّون العصر نحو بيت المقدس (فقال: هو يشهد أنه صلّى مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهذا على طريق التجريد جرّد من نفسه شخصًا أو على طريق الالتفات أو نقل الراوي كلامه بالمعنى (وأنه) عليه الصلاة والسلام (قد وجه) بضم الواو وكسر الجيم (إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر). نحو الكعبة.
والحديث سبق في باب التوجه نحو القبلة من الصلاة ومطابقته ظاهرة. وقال في مصابيح الجامع فإن قلت: إن كان مقصود البخاري أن يثبت قبول خبر الواحد بهذا الخبر الذي هو خبر الواحد فإن ذلك إثبات الشيء بنفسه. وأجاب: بأنه إنما مقصوده التنبيه على مثال من أمثلة قبولهم خبر الواحد ليضم إليه أمثالاً لا تحصى فثبت بذلك القطع بقبولهم لخبر الواحد قال: ثم مما يتعلق بالكلام على هذا الحديث وهو استقبال أهل قباء إلى الكعبة عند مجيء الآتي لهم وهم في صلاة الصبح لأنه عليها السلام أمر أن يستقبل الكعبة أن نسخ الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد هل يجوز أولاً الأكثرون على المنع لأن المقطوع لا يزال بالمظنون فنقل عن الظاهرية به جواز ذلك واستدلّ للجواز بهذا الحديث، ووجه الدليل أنهم قد عملوا بخبر الواحد ولم ينكر عليهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قال ابن دقيق العيد: وفي هذا الاستدلال عندي مناقشة فإن المسألة مفروضة في نسخ الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد ويمتنع في العادة أهل قباء مع قربهم منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإتيانهم إليه وتيسر مراجعتهم له أن يكون مستندهم في الصلاة إلى بيت المقدس خبرًا عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع طول المدة ستة عشر شهرًا من غير مشاهدة لفعله أو مشافهة من قوله. قال البدر الدماميني: ليس الكلام في صلاتهم إلى بيت المقدس مع طول المدة