سمعت كلامه حال كونه (على المنبر) النبوي المدني، فأل فيه للعهد وهو بكسر الميم من النبرة، وهي الارتفاع أي سمعته حال كونه (قال) ولأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر يقول (سمعت رسول الله ﷺ) أي سمعت كلامه حال كونه (يقول) فيقول في موضع نصب حالاً من رسول الله ﷺ، لأن سمعت لا يتعدى إلى مفعولين، فهي حال مبنية للمحذوف المقدّر بكلام، لأن الذات لا تسمع. وقال الأخفش: إذا علقت سمعت بغير مسموع كسمعت زيدًا يقول فهي متعدية لمفعولين الثاني منهما جملة، يقول واختاره الفارسي وعورض بأن سمعت لو كان يتعدى إلى مفعولين لكان إما من باب أعطيت أو ظننت، ولا جائز أن يكون من باب أعطيت لأن ثاني مفعوليه لا يكون جملة ولا مخبرًا به عن الأوّل، وسمعت بخلاف ذلك. ولا جائز أن يكون من باب ظننت لصحة قولك سمعت كلام زيد فتعديه إلى واحد ولا ثالث للبابين، وقد بطلا فتعين القول الأوّل.
وأجيب بأن أفعال التصيير ليست من البابين وقد ألحقت بهما. وأيضًا من أثبت ما ليس من البابين مثبت لما لا مانع منه، فقد ألحق بعضهم بما ينصب مفعولين ضرب مع المثل نحو: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾ [النحل: ٧٥]، وألحق بعضهم رأي الحلمية نحو قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ [يوسف: ٣٦] وأتى بيقول المضارع في رواية من ذكرها بعد سمع الماضي. إما حكاية لحال وقت السماع أو لإحضار ذلك في ذهن السامعين تحقيقًا وتأكيدًا له، وإلا فالأصل أن يقال: قال كما في الرواية الأخرى ليطابق سمعت.
(إنما الأعمال) البدنية أقوالها وأفعالها فرضها ونفلها قليلها وكثيرها الصادرة من المكلفين المؤمنين صحيحة أو مجزئة (بالنيات) قيل: وقدّره الحنفية إنما الأعمال كاملة والأوّل أولى لأن الصحة أكثر لزومًا للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى لأن ما كان ألزم للشيء كان أقرب خطورًا بالبال عند إطلاق اللفظ، وهذا يوهم أنهم لا يشترطون النية في العبادات، وليس كذلك فإن الخلاف ليس إلا في الوسائل، أما المقاصد، فلا اختلاف في اشتراط النية فيها. ومن ثم لم يشترطوها في الوضوء لأنه مقصود لغيره لا لذاته، فكيفما حصل حصل المقصود وصار كستر العورة وباقي شروط الصلاة التي لا تفتقر إلى نية، وإنما احتيج في الحديث إلى التقدير لأنه لا بدّ للجار من متعلق محذوف هنا هو الخبر في الحقيقة على الأصح، فينبغي أن يجعل المقدر أوّلاً في ضمن الخبر فيستغنى عن إضمار شيء في الأوّل لئلا يصير في الكلام حذفان، حذف المبتدأ أوّلاً وحذف الخبر ثانيًا، وتقديره: إنما صحة الأعمال كائنة بالنيات، لكن قال البرماوي يعارضه أن الخبر يصير كونًا خاصًّا، وإذا قدّرنا إنما صحة الأعمال كائنة كان كونًا مطلقًا وحذف الكون المطلق أكثر من الكون الخاص، بل يمتنع إذا لم يدل عليه دليل وحذف المضاف كثير أيضًا، فارتكاب حذفين بكثرة وقياس أولى من حذف واحد بقلة وشذوذ وهو الوجه المرضيّ، ويشهد لذلك ما قرّره في حذف خبر المبتدأ بعد لولا في الكون العامّ والخاص. ومنهم من جعل المقدّر القبول أي إنما قبول الأعمال، لكن تردّد في أن القبول ينفك عن الصحة أم لا، فعلى الأوّل هو كتقدير الكمال وعلى الثاني كتقدير الصحة، ومنهم من قال: لا حاجة إلى إضمار محذوف من الصحة أو الكمال أو نحوهما، إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنما المراد حقيقة العمل الشرعي فلا يحتاج حيئذ إلى إضمار.
والنيات بتشديد الياء جمع نية من نوى ينوي من باب ضرب يضرب وهي لغة القصد، وقيل: هي من النوى بمعنى البعد، فكأنَّ الناوي للشيء يطلب بقصده وعزمه بما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظاهرة لبعده عنه، فجعلت النية وسيلة إلى بلوغه. وشرعًا قصد الشيء مقترنًا بفعله، فإن تراخى عنه كان عزمًا، أو يقال: قصد الفعل ابتغاء وجه الله وامتثالاً لأمره، وهي هنا محمولة على معناها اللغوي ليطابق ما بعده من التقسيم، والتقييد بالمكلفين المؤمنين يخرج أعمال الكفار، لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر وإن كان مخاطبًا بها معاقبًا على تركها، وجمعت النية في هذه الرواية باعتبار تنوّعها لأن