على الحكاية، لا يقال: إنه صريح في الدلالة على ترك البسملة أولها، لأن المراد الافتتاح بالفاتحة، فلا تعرض لكون البسملة منها أو لا.
ولمسلم لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، وهو محمول على نفي سماعها، فيحتمل إسرارهم بها. ويؤيده رواية النسائي وابن حبّان: فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم.
فنفي القراءة محمول على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده رواية ابن خزيمة: كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم.
وقد قامت الأدلة والبراهين للشافعي على إثباتها، ومن ذلك، حديث أم سلمة المروي في البيهقي وصحيح ابن خزيمة، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة في الصلاة، وعدّها آية.
وفي سنن البيهقي عن علي وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم أن الفاتحة هي السبع المثاني، وهي سبع آيات، وأن البسملة هي السابعة.
عن أبي هريرة مرفوعًا: إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أُم القرآن وأُم الكتاب والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها. قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات.
وأحاديث الجهر بها كثيرة عن جماعة من الصحابة، نحو العشرين صحابيًّا كأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبي هريرة، وأُم سلمة.
٧٤٤ - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً -قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً- فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَاىَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري التبوذكي (قال: حدّثنا عبد الواحد بن زياد) العبدي البصري (قال: حدّثنا عمارة بن القعقاع (قال: حدّثنا أبو زرعة) هرم، أو عبد الرحمن، أو عمرو، أو جرير بن عمرو البجلي، (قال: حدّثنا أبو هريرة قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسكت) بفتح
أوله (بين التكبير وبين القراءة إسكاتة) بكسر الهمزة بوزن إفعالة، وهو من المصادر الشاذة إذ القياس سكوتًا، وهو منصوب مفعولاً مطلقًا، أي سكوتًا يقتضي كلامًا بعده.
(قال) أبو زرعة (أحسبه) أي أظن أبا هريرة (قال: هنية) بضم الهاء وفتح النون وتشديد المثناة التحتية من غير همز -كذا عند الأكثر أي: يسيرًا وللكشميهني والأصيلي: هنيهة بهاء بعد المثناة الساكنة. وفي نسخة: هنيئة بهمزة مفتوحة بعد المثناة الساكنة، قال عياض والقرطبي: وأكثر رواة مسلم قالوه بالهمز، لكن قال النووي: إنه خطأ، قال: وأصله هنوة، فلما صغرت صارت هنيوة، فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ثم أدغمت. وتعقب بأنه لا يمنع ذلك إجازة الهمزة، فلقد تقلب الواو همزة.
(فقلت بأبي وأمي) أي أنت مفدى أو أفديك بهما (يا رسول الله إسكاتك) بكسر الهمزة وسكون السين والرفع، قال في الفتح: وهو الذي في رواية الأكثرين، وأعربه مبتدأ، لكنه لم يذكر خبره، أو هو منصوب على ما قاله المظهري، أي أسألك إسكاتك، أو في إسكاتك وللمستملي والسرخسي: أسكاتك؟ بفتح الهمزة وضم السين على الاستفهام، ولهما في نسخة أسكوتك؟ (بين التكبير والقراءة) ولأبي ذر، والأصيلي، وأبي الوقت، وابن عساكر: وبين القراءة (ما تقول) فيه؟ (قال) عليه الصلاة والسلام:
(أقول) فيه (اللهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت) أي كتبعيدك (بين المشرق والمغرب) هذا من المجاز لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان، أي: امح ما حصل من خطاياي، خل بيني وبين ما يخاف من وقوعه حتى لا يبقى لها مني اقتراب بالكلية.
وهذا الدعاء صدر منه عليه الصلاة والسلام على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وقيل: إنه على سبيل التعليم لأمته، وعورض بكونه: لو أراد ذلك لجهر به، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار وأعاد لفظ: بين هنا ولم يقل: وبين المغرب لأن العطف على الضمير المخفوض يعاد معه العامل بخلاف الظاهر، كذا قرره الكرماني، لكن يرد عليه قوله: بين التكبير وبين القراءة.
(اللهمَّ نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) أي الوسخ وقاف نقني بالتشديد في الموضعين. وهذا مجاز عن إزالة الذنوب ومحو أثرها. وشبه بالثوب الأبيض لأن الدنس فيه أظهر من غيره من الألوان (اللهمّ اغسل خطاياي بالماء والثلج) بالمثلثة وسكون اللام، وفي اليونينية بفتحها (والبرد) بفتح الراء.
وذكر الأخيرين بعد الأول للتأكيد