عليه … الحديث، أي: سواء كان الباكي من أهل الميت أم لا، فليس الحكم مختصًّا بأهله، وقوله: ببكاء أهله، خرج مخرج الغالب، لأن المعروف أنه إنما يبكي على الميت أهله، ووقع في بعض طرق حديث ابن عمر هذا، عند ابن أبي شيبة: من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة، فيحمل المطلق في حديث الباب على هذا المقيد.
١٢٨٧ - فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄: قَدْ كَانَ عُمَرُ ﵁ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ ﵁ مِنْ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ. قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي. فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَاأَخَاهُ وَاصَاحِبَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ ﵁: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَىَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"؟.
[الحديث ١٢٨٧ - طرفاه في: ١٢٩٠، ١٢٩٢].
(فقال ابن عباس، ﵄: قد كان عمر) بن الخطاب (﵁، يقول، بعض ذلك، ثم حدّث) أي ابن عباس (فقال):
(صدرت مع عمر، ﵁، من مكة) قافلاً من حجة (حتى إذا كنا بالبيداء) بفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية، مفازة بين مكة والمدينة (إذا هو بركب) أصحاب إبل عشرة، فما فوقها مسافرين فاجأوه (تحت ظل سمرة) بفتح السين المهملة وضم الميم، شجرة عظيمة من العضاه (فقال: اذهب فانظر مَن هؤلاء الركب؟ قال: فنظرت فإذا صهيب) بضم الصاد ابن سنان بن قاسط بالقاف، وكان من السابقين الأوّلين المعذبين في الله (فأخبرته) أي: أخبرت عمر بذلك (فقال: ادعه لي، فرجعت إلى صهيب، فقلت) له: (ارتحل فالحق) بكسر الحاء المهملة في الأول وفتحها في الثاني، أمر من: اللحوق (فأمير المؤمنين) كذا لأبي ذر، عن الكشميهني: بالموحدة قبل الهمزة، ولغيره: فالحق أمير المؤمنين، فلحق به. حتى دخلنا المدينة (فلما أصيب عمر) ﵁ بالجراحة التي مات بها، وكان ذلك عقب حجه المذكور (دخل صهيب) حال كونه (يبكي) حال كونه (يقول: وا أخاه، وا صاحباه) بألف الندبة فيهما لتطويل مدّ الصوت، وليست علامة إعراب في الأسماء الستة، والهاء للسكت لا ضمير، لكن الشرط في المندوب أن يكون معروفًا، فيقدّر أن الأخوة والصاحبية كانا معلومين معروفين حتى يصح وقوعهما للندبة، (فقال عمر، ﵁: يا صهيب أتبكي عليّ) بهمزة الاستفهام الإنكاري (وقد قال رسول الله ﷺ):
(إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه؟) قيده ببعض البكاء فحمل على ما فيه نياحة جميعًا بين الأحاديث.
١٢٨٨ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ "فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ﵁ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ ﵂ فَقَالَتْ: يَرْحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ ﴿هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ ﵄ شَيْئًا".
[الحديث ١٢٨٨ - طرفاه في: ١٢٨٩، ٣٩٧٨].
(وقال ابن عباس، ﵄: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، ﵂، فقالت: يرحم الله عمر) قال الطيبي: هذا من الآداب الحسنة على منوال قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] فاستغربت من عمر ذلك القول، فجعلت قولها: يرحم الله عمر تمهيدًا ودفعًا لما يوحش من نسبته إلى الخطأ.
والله ما حدّث رسول الله، ﷺ: (إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه) يحتمل أن يكون جزمهما بذلك، لكونها سمعت صريحًا من النبي، ﷺ اختصاص العذاب بالكافر، أو فهمت ذلك من القرائن (لكن) بإسقاط الواو، ولأبي ذر: ولكن (رسول الله، ﷺ) بإسكان نون لكن، فرسول الله مرفوع وبتشديدها فهو منصوب (قال):
(إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه، وقالت: حسبكم القرآن) أي: كافيكم أيها المؤمنون قوله تعالى في القرآن (﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾) [الأنعام: ١٦٤ والإسراء: ١٥ وفاطر: ١٨ والزمر: ٧] أي: لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها.
(قال ابن عباس ﵄، عند ذلك والله ﴿هو أضحك وأبكى﴾ [النجم: ٤٣] تقرير لنفي ما ذهب إليه ابن عمر من أن الميت يعذب ببكاء أهله، وذلك أن بكاء الإنسان وضحكه وحزنه وسروره من الله، يظهرها فيه، فلا أثر لها في ذلك فعند ذلك سكت ابن عمر.
كما (قال ابن أبي مليكة: والله ما قال ابن عمر، ﵄، شيئًا). بعد ذلك، لكن قال الزين بن المنير: سكوته لا يدل على الإذعان، فلعله كره المجادلة.
وقال القرطبي ليس سكوته لشك طرأ له بعدما صرح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلاً للتأويل، ولم يتعين له محمل يحمله عليه إذ ذاك، أو كان المجلس لا يقبل المماراة، ولم تتعين الحاجة حينيذٍ.
وقال الخطابي: الرواية إذا ثبتت لم يكن في دفعها سبيل بالظن، وقد رواه عمر وابنه، وليس فيما حكت عائشة ما يرفع روايتهما. لجواز أن يكون الخبران صحيحين معًا، ولا منافاة بينهما.
فالميت إنما تلزمه العقوبة بما تقدم من وصيته إليهم به وقت حياته، وكان ذلك مشهورًا من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم