الترشيح للمجاز، وذلك أنه لما كانت الآية {أولئك عليهم ... } كذا وكذا، ولفظة: على، تعطي الحمل، عبر عمر رضي الله عنه بهذه العبارة، وقيل: العدلان: إنا لله وإنا إليه راجعون، والعلاوة الثواب عليهما وغير ذلك والأولى أولى، كما لا يخفى. واعلم أن الصبر ذكر في القرآن العظيم في: خمسة وتسعين موضعًا، ومن أجمعها هذه الآية ومن آنقها {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: ٤٤] قرن: هاء الصابر بنون العظمة ومن أبهجها قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: ٢٣، ٢٤].
(وقوله تعالى) بالجر، عطفًا على باب الصبر، أي: وباب قوله: ({واستعينوا}) على حوائجكم ({بالصبر}) أي بانتظار النجح والفرج توكلاً على الله تعالى أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات، لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس ({والصلاة}) بالالتجاء إليها، فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية، من الطهارة وستر العورة، وصرف المال فيهما، والتوجه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النية بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الحق، وقراءة القرآن، والتكلم بالشهادتين، وكف النفس عن الأطيبين، حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب ({وإنها}) أي: الاستعانة بهما، أو: الصلاة وتخصيصها بردّ الضمير إليها لعظم شأنها، واستجماعها ضروبًا من الصبر ({لكبيرة}) لثقيلة شاقة ({إلا على الخاشعين}) [البقرهّ: ٤٥] المخبتين، والخشوع الاخبات. وأخرج أبو داود، بإسناد حسن، عن حذيفة، قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا حز به أمر صلى. ومن أسرار الصلاة أنها تعين على الصبر لما فيها من الذكر والدعاء والخضوع.
١٣٠٢ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى».
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة والشين المعجمة المشددة، قال: (حدّثنا
غندر) هو لقب محمد بن جعفر، قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن ثابت) البناني (قال: سمعت أنسًا) هو: ابن مالك (رضي الله عنه) يقول (عن النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال):
(الصبر) الكثير الثواب، الصبر (عند الصدمة الأولى) فإن مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب، وتزعجه بصدمتها، فإن صبر للصدمة الأولى انكسرت حدتها، وضعفت قوتها، فهان عليه استدامة الصبر، فأما إذا طالت الأيام على المصاب، وقع السلو وصار الصبر، حينئذ طبعًا، فلا يؤجر عليه مثل ذلك، والصابر على الحقيقة من صبر نفسه، وحبسها عن شهواتها، وقهرها عن الحزن والجزع، والبكاء الذي فيه راحة النفس، وإطفاء نار الحزن، فإذا قابل فيها سورة الحزن وهجومه، بالصبر الجميل، وتحقق أنه لا خروج له عن قضائه تعالى، وأنه يرجع إليه، وعلم يقينًا أن الآجال لا تقديم فيها ولا تأخير، وأن المقادير بيده تعالى ومنه استحق حينئذ جزيل الثواب، فضلاً منه تعالى. وعدّ من الصابرين الذين وعدهم الله بالرحمة والمغفرة.
وإذا جزع ولم يصبر، أثم وأتعب نفسه، ولم يرد من قضاء الله شيئًا، ولو لم يكن من فضل الصبر للعبد إلا الفوز بدرجة المعية والمحبة، إن الله مع الصابرين، إن الله يحب الصابرين، لكفى. فنسأل الله العافية والرضا.
واعلم أن المصيبة كير العبد الذي يسبك فيه حاله، فإما أن يخرج ذهبًا أحمر، وإما أن يخرج خبثًا كله، كما قيل:
سبكناه ونحسبه لجينًا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا، فبين يديه الكير الأعظم، فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك، وأنه لا بد له من أحد الكيرين، فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل، فالعبد إذا امتحنه الله بمصيبة فصبر عند الصدمة الأولى، فليحمد الله تعالى على أن أهلّه لذلك وثبته عليه.
وقد اختلف: هل المصائب مكفرات أو مثيبات؟ فذهب الشيخ عز الدّين بن عبد السلام في طائفة، إلى أنه: إنما يثاب على الصبر عليها، لأن الثواب إنما يكون على فعل العبد، والمصائب لا صنع له فيها، وقد يصيب الكافر مثل ما يصيب المسلم، وذهب آخرون إلى أنه يثاب عليها لآية، ولا ينالون من عدوّ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح.
وحديث الصحيحين: والذي نفسي بيده