(مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) أي الله أعلم بعقد نيّته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا والجملة معترضة بين قوله مثل المجاهد في سبيل الله وبين قوله: (-كمثل الصائم) نهاره (القائم-) ليله، وزاد مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة:"كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة" وزاد النسائي من هذا الوجه: "الخاشع الراكع الساجد" ومثله بالصائم لأن الصائم ممسك لنفسه عن الأكل والشرب واللذات، وكذلك المجاهد ممسلك لنفسه على محاربة العدوّ وحابس نفسه على من يقاتله وكما أن الصائم القائم الذي لا يفتر ساعة من العبادة مستمرًّا الأجر كذلك المجاهد لا يضيع ساعة من ساعاته بغير أجر. قال تعالى: ﴿ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة﴾ إلى قوله: ﴿إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ [التوبة: ١٢٠].
(وتوكل الله) أي تكفل الله تعالى على وجه الفضل منه (للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة) أي بتوفيه بدخوله الجنة في الحال بغير حساب ولا عذاب كما ورد: إن أرواح الشهداء تسرح في الجنة (أو يرجعه) بفتح أوّله أي أو أن يرجعه إلى مسكنه حال كونه (سالمًا مع أجر) وحده (أو غنيمة) مع أجر وحذف الأجر من الثاني للعلم به إذ لا يخلو المجاهد عنه فالقضية مانعة الخلو لا مانعة الجمع أو لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بدون الغنيمة إذ القواعد تقتضي بأنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرًا عند وجودها. وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا:"ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلاّ تعجلوا ثلثي أجرهم ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" فهذا صريح ببقاء بعض الأجر مع حصول الغنيمة فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من ثواب الغزو.
وفي التعبير بثلثي الأجر حكمة لطيفة، وذلك أن الله تعالى أعدّ للمجاهد ثلاث كرامات:
دنيويتان وأُخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة، والأخروية دخول الجنة، فإذا رجع سالمًا غانمًا فقد حصل له ثلثا ما أعدّ الله له وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوّضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته، وليس المراد ظاهر حديث الباب أنه إذا غنم لا يحصل له أجر، وقيل إن أو بمعنى الواو وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي في شرحه للمصابيح والتقدير بأجر وغنيمة، وكذا رواه مسلم بالواو وفي بعض رواياته، ورواه الفريابي وجماعة عن يحيى بن يحيى بصيغة أو، وكذا مالك في موطئه ولم يختلف عليه إلا في رواية يحيى بن بكير عنه بالواو، ولكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال وكذا وقع عند النسائي وأبي داود بإسناد صحيح، فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين القول بأن "أو" في هذا الحديث بمعنى "الواو" كما هو مذهب نحاة الكوفة، لكن استشكله ابن دقيق العيد من حيث أنه إذا كان المعنى يقتضي اجتماع الأمرين كان ذلك داخلاً في الضمان فيقتضي أنه لا بدّ من حصول الأمرين لهذا المجاهد وقد لا يتفق له ذلك فما فرّ منه الذي ادّعى أن "أو" بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه يلزم على ظاهرها أن من رجع بغنيمة رجع بغير أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو وأن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معًا.
وأجاب في المصابيح: بأنه إنما يرد الإشكال إذا كان القائل بأنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة إلى آخره، وأما إن سكت عن هذا التفسير فلا يتجه الإشكال إذ يحتمل أن يكون التقدير أو يرجعه سالمًا مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مرّ والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة، وإن حصلت فلا لم يرد الإشكال المذكور عليه لاحتمال أن يكون تنكير الأجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت