فإنه يدل على أنهم يتناكحون لأجل الذرية ورقتهم لا تمنع من توالدهم إذا كان ما يلدونه رقيقًا ألا ترى أنا قد نرى من الحيوان ما لا يتبين للطافته إلا بالتأمل ولا يمنع ذلك من التوالد، وغالب ما توجد الجن في مواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل، وكثير من أهل الضلالات والبدع المظهرين للزهد والعبادة على غير الوجه الشرعي يأوون إلى مواضع الشياطين المنهي عن الصلاة فيها يقع لهم فيها بعض مكاشفات لأن الشياطين تنزل عليهم فيها وتخاطبهم ببعض الأمر كما تخاطب الكهان، وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابديها.
واختلف هل هم مكلفون؟ فذهب الحشوية إلى أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا مكلفين، والذي عليه الجمهور أنهم مكلفون مخاطبون مثابون على الطاعات معاقبون على المعاصي (لقوله)﷿: (﴿يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم﴾) في موضع رفع صفة لرسل (﴿يقصون عليكم آياتي﴾)[الأنعام: ١٣٠] إلى قوله: (﴿عما يعملون﴾) وسقط لأبي ذر إلى قوله: ﴿عما يعملون﴾ وقال: الآية ويحتمل أن تكون يقصون صفة ثانية لرسل وأن تكون في موضع نصب على الحال وصاحبها رسل وإن كان نكرة لتخصيصه بالوصف أو الضمير المستتر في منكم، وزعم الفراء أن في الآية حذف مضاف أي: ألم يأتكم رسل من أحدكم يعني من جنس الإنس كقوله تعالى: ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ [الرحمن: ٢٢] وإنما يخرجان من الملح فالتقدير يخرج من أحدهما وإنما يحتاج إلى ذلك لأن الرسل عنده مختصة بالإنس يعني أنه يعتقد أن الله ما أرسل للجن رسولاً منهم بل إنما أرسل إليهم الإنس ولم يرسل من الجن إلا بواسطة رسالة الإنس لقوله تعالى: ﴿ولّوا إلى قومهم منذرين﴾ [الأحقاف: ٢٩] وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، وإن قلنا: إن رسل الجن من الإنس لأنه يطلق عليهم رسل مجازًا لكونهم رسلاً بواسطة رسالة الإنس والإجماع على أن نبينا ﷺ مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، وتمسك قوم منهم الضحاك وقالوا: بعث إلى كل من الثقلين رسل منهم وإن الله تعالى أرسل إلى الجن رسولاً منهم اسمه يوسف. قال ابن جرير: وأما الذين قالوا بقول الضحاك فإنهم قالوا إن الله تعالى أخبر أن من الجن رسلاً أرسلوا إليهم، ولو جاز أن يكون خبره عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجن. قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدل على أن الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله تعالى لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره.
قال في الآكام: ويدل لما قاله الضحاك حديث ابن عباس عند الحاكم قال: ومن الأرض مثلهن قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيساكم. قال الذهبي: إسناده حسن وله شاهد عند الحاكم أيضًا عن ابن عباس قال في قوله: ﴿سبع سماوات ومن الأرض مثلهن﴾ [الطلاق: ١٢] قال في كل أرض نحو إبراهيم ﷺ. قال الذهبي: حديث على شرط الشيخين رجاله أئمة إذا تقرر أنهم مكلفون فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام وأما ما عداه من الفروع فاختلف فيها لما ثبت من النهي عن الروث والعظم وإنهما زاد الجن.
واختلف هل يثابون على الطاعات؟ فروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال: ثواب الجن أن يجاروا من النار ثم يقال لهم: كونوا ترابًا. وروي عن أبي حنيفة نحوه، وذهب الجمهور وهو مذهب الأئمة الثلاثة أنهم يثابون على الطاعة. وعن مالك أنه استدلّ على أن عليهم العقاب ولهم الثواب بقوله تعالى: ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ ثم قال: ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ [الرحمن: ٤٦] والخطاب للإنس والجن، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين والمؤمن من شأنه أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب. وهل يدخلون الجنة كالإنس؟ والجمهور على أنهم يدخلون ولا يأكلون فيها ولا يشربون، بل يلهمون التسبيح والتقديس. وحكاه الكمال الدميري عن مجاهد واستغربه. وقال الحرث المحاسبي: نراهم فيها ولا يرونا عكس ما في الدنيا