فلم يشهد وفاة أبي طالب، فالحديث مرسل صحابي كذا قرره الكرماني، وردّه الحافظ ابن حجر بأنه لا يلزم من تأخر إسلامه عدم حضوره وفاة أبي طالب كما شهدها عبد الله بن أبي أمية وهو كافر ثم أسلم، وتعقبه العيني بأن حضور عبد الله بن أبي أمية ثبت في الصحيح ولم يثبت حضور المسيب لا في الصحيح ولا في غيره وبالاحتمال لا يرد على كلام بغير احتمال.
وأجاب في انتقاض الاعتراض فقال: هذا كلام عجيب إنما يتوجه الرد على من قال جازمًا إن المسيب لم يحضرها ولم يذكر مستندًا إلا أنه كان كافرًا لا يمتنع أن يشهد وفاة كافر فتوجه الرد على الجزم، ويؤيده أن عنعنة الصحابي محمولة على السماع إلا إذا أدرك قصة ما أدركها كحديث عائشة عن قصة المبعث النبوي فتلك الرواية تسمى مرسل صحابي، وأما لو أخبر عن قصة أدركها ولم يصرح فيها بالسماع ولا المشاهدة فإنها محمولة على السماع وهذا شأن حديث المسيب فهذا الذي يمشي على الاصطلاح الحديثي وأما الدفع بالصدر فلا يعجز عنه أحد لكنه لا يجدي شيئًا انتهى.
(فقال): -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي طالب (أي عم قل لا إله إلا الله كلمة) بالنصب على البدل ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف (أحاجّ لك بها عند الله) بضم الهمزة وفتح الحاء المهملة وبعد الألف جيم مشدّدة مضمومة في الفرع خبر مبتدأ محذوف، وفي بعض النسخ فتح الجيم على الجزم جواب الأمر، والتقدير أن تقل أحاج وهو من المحاججة مفاعلة من الحجة. وعند الطبري من طريق سفيان بن
حسين عن الزهري قال: أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقًّا وأحسنهم عندي يدًا فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة فيك يوم القيامة.
(فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية): لأبي طالب (أترغب عن ملة عبد المطلب؟) يقال رغب عن الشيء إذا لم يرده ورغب فيه إذا أراده (فلم يزل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعرضها) أي كلمة الإخلاص (عليه) على أبي طالب (ويعيدانه) بضم أوله والضمير المنصوب لأبي طالب (بتلك المقالة) وهي قولهما: أتركب وكأنه كان قد قارب أن يقولها فيردانه. وقال البرماوي كالزركشي: صوابه ويعيدان له تلك المقالة، وتعقبه في المصابيح فقال: ضاق عطنه يعني الزركشي عن توجيه اللفظ على الصحة فجزم بخطئه، ويمكن أن يكون ضمير النصب من قوله: ويعيدانه ليس عائدًا على أبي طالب وإنما هو عائد على الكلام بتلك المقالة، ويكون بتلك المقالة ظرفًا مستقرًّا منصوب المحل على الحال من ضمير النصب العائد على الكلام والباء للمصاحبة أي يعيدان الكلام في حالة كونه متلبسًا بتلك المقالة وإن بنينا على جواز إعمال ضمير المصدر كما ذهب إليه بعضهم في مثل مروري بزبد حسن وهو بعمرو قبيح فالأمر واضح، وذلك بأن يجعل ضمير الغيبة عائدًا على التكلم المفهوم من السياق والباء متعلقة بنفس الضمير العائد عليه أي ويعيدان التكلم بتلك المقالة.
(حتى قال أبو طالب آخر) نصب على الظرفية (ما كلمهم على ملّة عبد المطلب) وفي الجنائز: هو على ملة عبد المطلب وأراد نفسه أو قال: أنا على ملة عبد المطلب فغيرها الراوي أنفة أن يحكى كلامه استقباحًا للتلفظ به. (وأبى) امتنع (أن يقول لا إله إلا الله) قال في الفتح: هو تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب.
(قال) المسيب: (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: والله لأستغفرن لك) كما استغفر الخليل لأبيه (ما لم أُنه عنك) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (فأنزل الله) تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا} أي ما ينبغي لهم {أن يستغفروا للمشركين} زاد في نسخة (ولو كانوا أولي قربى} [التوبة: ١١٣] الآية خبر بمعنى النهي.
واستشكل هذا بأن وفاة أبي طالب وقعت قبل الهجرة بمكة بغير خلاف، وقد ثبت أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية. رواه الحاكم وابن أبي حاتم عن ابن مسعود والطبراني عن ابن عباس، وفي ذلك دلالة على تأخر نزول الآية عن وفاة أبي طالب، والأصل