في العذر ومكنه منه، إذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية ونسبة الاعتذار إلى الله مجازية، والمعنى أن الله تعالى لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به (لقوله) ﷿: (﴿أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر﴾) توبيخ من الله أي فيقول الله تعالى لهم توبيخًا. قال الزجاج: أي أو لم نعمركم العمر الذي يتذكر فيه من تذكر. وقال أبو البركات النسفيّ: يجوز أن تكون ما نكرة موصوفة أي تعميرًا يتذكر فيه من تذكر. وقال ابن الحاجب: ما لا يستقيم أن تكون نافية من
حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أما اللفظ فلأنها يجب قطعها عن نعمركم لأنه لا يجوز أن يكون النفي من معموله، وأيضًا فإن الضمير في فيه يرجع إلى غير مذكور، وأما المعنى فلأن قوله: ﴿أو لم نعمركم﴾ إنما سيق لإثبات التعمير وتوبيخهم على تركهم التذكير فيه، فإذا جعل نفيًا كان فيه إخبار عن نفي تذكر متذكر فيه فظاهره على ذلك نفي التعمير لأنه إذا كان زمانًا لا يتذكر فيه متذكر لزم أن لا يكون تعميرًا وهو خلاف قوله: ﴿أو لم نعمركم﴾ اهـ.
وقوله ﴿أو لم نعمركم﴾ متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم، واختلف في مقدار العمر المراد هنا فعن علي بن الحسين زيد العابدين سبع عشرة سنة. وعن وهب بن منبه أربعون سنة. وقال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله ﷿، وعن ابن عباس ستون سنة وهو الصحيح كما سيأتي في حديث أبي هريرة أول أحاديث هذا الباب، وعن ابن عباس مما رواه ابن مردويه سبعون سنة، فالإِنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين ثم يشرع بعد ذلك في النقص والهرم.
إذا بلغ الفتى ستين عامًّا … فقد ذهب المسرة والهناء
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به ويزيح عنهم العلل كان هذا هو الغالب على أعمار هذه الأمة، فعند أبي يعلى من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد عن أبي هريرة معترك المنايا ما بين ستين وسبعين، لكن إبراهيم بن الفضل ضعيف، وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك". رواه الترمذي في كتاب الزهد. (﴿وجاءكم النذير﴾) [فاطر: ٣٧] زاد أبو ذر يعني الشيب وهو مروي عن ابن عباس وغيره. وقال السدي وعبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم: المراد به رسول الله ﷺ وهو الصحيح عن قتادة فيكون احتج عليهم بالعمر والرسل.
٦٤١٩ - حَدَّثَنِى عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِىٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِىِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً». تَابَعَهُ أَبُو حَازِمٍ وَابْنُ عَجْلَانَ عَنِ الْمَقْبُرِىِّ.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر بالجمع (عبد السلام بن مطهر) بضم الميم وفتح الطاء المهملة والهاء المشددة المفتوحة ابن حسام أبو ظفر الأزدي البصري قال: (حدّثنا عمر بن عليّ) بضم العين وفتح الميم ابن عطاء بن مقدّم المقدّمي البصري (عن معن بن محمد) بفتح الميم وسكون العين المهملة (الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة إلى غفار، وعمر بن علي مدلس وقد رواه عن معن بالعنعنة، لكن أخرج الحديث أحمد بن عبد الرزاق عن معمر عن رجل من بني غفار عن سعيد فصرح فيه بالسماع والمبهم هو معن بن محمد الغفاري (عن سعيد بن أبي سعيد) ذكوان (المقبري) بضم الموحدة نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان يسكن عندها وسقط المقبري لأبي ذر (عن أبي هريرة) ﵁ (عن النبي ﷺ) أنه (قال):
كذا لأبي ذر ولغيره فقال: بفاء قبل القاف.
(أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله) أي أطال حياته (حتى بلغه ستين سنة) أي لم يبق فيه موضعًا للاعتذار حيث أمهله إلى طول هذه المدة ولم يعتذر يقال أعذر الرجل إذا بلغ أقصى الغاية في العذر. وقال التوربشتي: ومنه قولهم أعذر من أنذر أي أن بالعذر وأظهره وهو مجاز عن القول فإن العذر لا يتوجه على الله، وإنما يتوجه له على العبيد وحقيقة المعنى فيه أن الله لم يترك شيئًا