للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ويفهم من سياق الكلام أن هناك فرعًا ممن يرجو الشفاعة هل يؤذن له في الشفاعة أم لا فكأنه قال: يتربصون زمانًا فزعين حتى إذا كشف الفزع عن الجميع بكلام يقوله الله في إطلاق الإذن تباشروا بذلك، وسأل بعضهم بعضًا: ﴿ماذا قال ربكم قالوا الحق﴾ أي القول الحق وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى.

قال الحافظ ابن حجر: وجميع ذلك مخالف لهذا الحديث الصحيح ولأحاديث كثيرة تؤيده، والصحيح في إعرابها ما قاله ابن عطية وهو أن المغيا محدود كأنه قيل ولا هم شفعاء كما تزعمون بل هم عنده ممسكون لأمره إلى أن يزول الفزع عن قلوبهم والمراد بهم الملائكة، وهو المطابق للأحاديث الواردة في ذلك فهو المعتمد وغرض المؤلف من ذكر هذه الآية بل من الباب كله إثبات كلام الله القائم بذاته تعالى، ودليله أنه قال: ماذا قال ربكم (ولم يقل ماذا خلق ربكم)؟ وهذا أول باب ذكره المؤلف في مسألة الكلام وهي مسألة طويلة وقد تواتر بأنه تعالى متكلم عن الأنبياء، ولم يختلف في ذلك أحد من أرباب المِلَل والمذاهب وإنما الخلاف في معنى كلامه وقدمه وحدوثه، فعند أهل الحديث أن كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف بل صفة أزلية قائمة بذاته تعالى منافية للسكوت الذي هو ترك التكلم مع القدرة عليه والآفة التي هي عدم مطاوعة الآلة إما بحسب الفطرة كما في الخرس أو بحسب صفتها وعدم بلوغها حدّ القوّة كما في الطفولية هو بها آمر ناهٍ مخبر وغير ذلك يدل عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة، فإذا عبّر عنها بالعربية فقرآن وبالسريانية فإنجيل، وبالعبرانية فتوراة، والاختلاف على العبارات دون المسمى كما إذا ذكر الله بالسنة متعددة ولغات مختلفة. والحاصل أنه صفة واحدة تتكثر باختلاف التعلقات كالعلم والقدرة وسائر الصفات فإن كلاًّ منها واحدة قديمة، والتكثر والحدوث إنما هو في التعلقات والإضافات لما أن ذلك أليق بكمال التوحيد ولأنه لا دليل على تكثّر كلٍّ منها في نفسها، وقد خالف جميع الفرق وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدالة على المعاني المقصودة وأن الكلام النفسي غير معقول، ثم قالت الحنابلة والحشوية إن تلك الأصوات والحروف مع تواليها وترتّب بعضها على بعض، وكون الحرف الثاني من كل كلمة مسبوقًا بالحرف المتقدّم عليه كانت

ثابتة في الأزل قائمة بذات الباري تعالى وتقدس، وإن المسموع من أصوات القراء، والمرئي من أسطر الكتاب نفس كلام الله في كلام طويل.

وتحقيق الكلام بينهم وبين أهل السُّنَّة يرجع إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه وإلاّ فأهل السُّنَّة لا يقولون بقِدَم الألفاظ والحروف وهم لا يقولون بحدوث كلام نفسي، واستدلّ أهل السُّنّة على قِدَم كلامه تعالى وكونه نفسيًّا لا حسيًّا بأن المتكلم مَن قام به الكلام لا مَن أوجد الكلام ولو في محل آخر للقطع بأن موجد الحركة في جسم آخر لا يسمى متحركًا، وأن الله تعالى لا يسمى بخلق الأصوات مصوتًا. وأما إذا سمعنا قائلاً يقول أنا قائم فنسميه متكلمًا وإن لم نعلم أنه الموجد لهذا الكلام، بل وإن علمنا أن موجده هو الله تعالى كما هو رأي أهل الحق، وحينئذٍ فالكلام القائم بذات الباري تعالى لا يجوز أن يكون هو الحسيّ أعني المنتظم من الحروف المسموعة لأنه حادث ضرورة أن له ابتداء وانتهاء وإن الحرف الثاني من كل كلمة مسبوق بالأول ومشروط بانقضائه، وأنه يمتنع اجتماع أجزائه في الوجود وبقاء شيء منها بعد الحصول والحادث يمتنع قيامه بذات الباري تعالى فتعين النفسي القديم.

وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد: القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفات ذاته وليس شيء من صفات ذاته مخلوقًا ولا محدثًا ولا حادثًا قال تعالى: ﴿الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان﴾ [الرحمن: ١ - ٣] فخص القرآن بالتعليم لأنه كلامه وصفته وخصّ الإنسان بالتخليق لأنه خلقه ومصنوعه ولولا ذلك لقال خلق القرآن والإنسان في آيات أوردها دالّة على ذلك لا نطيل بها.

(وقال) الله (جل ذكره: ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه﴾ [البقرة: ٢٥٥]) أي ليس لأحد أن يشفع عنده لأحد إلا بإذنه ومن وإن

<<  <  ج: ص:  >  >>