للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولو كان كما زعموا لما قامت الحجة من هذا الكلام لأنه لو جعلهم خالقين لأعمالهم وهو خالق الأجناس لشركهم معه في الخلق تعالى الله عن إفكهم.

وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد قال الله تعالى: ﴿ذلكم الله ربكم خالق كل شيء﴾ [غافر: ٦٢] فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر وقال تعالى: ﴿أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار﴾ [الرعد: ١٦] فنفى أن يكون خالق غيره ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق، فلو كانت الأفعال غير مخلوقة له لكان خالق بعض شيء وهو بخلاف الآية ومن المعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان فلو كان الله خالق الأعيان والناس خالقي الأفعال لكان مخلوقات الناس أكثر من مخلوقات الله تعالى الله عن ذلك.

وقال الشمس الأصفهاني في تفسير قوله: ﴿وما تعملون﴾ أي عملكم وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأنها مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملاً فأبطلت هذه الآية مذهب القدرية والجبرية معًا، وقد رجح بعض العلماء كونها مصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام إلا لعملهم لا لجزم الصنم وإلا لكانوا يعبدونه قبل النحت فكأنهم عبدوا العمل فأنكر عليهم عبادة المنحوت الذي لم ينفك عن عمل المخلوق.

وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية سلمنا أنها موصولة لكن لا نسلم أن للمعتزلة فيها حجة لأن قوله تعالى: ﴿والله خلقكم﴾ يدخل فيه ذاتهم وصفاهم، وعلى هذا إذا كان خلقكم وخلق الذي تعملونه إن كان المراد خلقه لها قبل النحت لزم أن يكون المعمول غير المخلوق وهو باطل، فثبت أن المراد خلقه لها قبل النحت وبعده وأن الله خلقها بما فيها من التصوير والنحت فثبت أنه خالق ما تولد من فعلهم، ففي الآية دليل على أن الله تعالى خلق أفعالهم القائمة بهم وخلق ما تولد عنها.

وقال الحافظ عماد الدين بن كثير كل من قولي المصدر والموصول متلازم والأظهر ترجيح المصدرية لما رواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد من حديث حذيفة مرفوعًا: إن الله يصنع كل صانع وصنعته وأقوال الأئمة في هذه المسألة كثيرة، والحاصل أن العمل يكون مسند إلى العبد من حيث إن له قدرة عليه وهو المسمى بالكسب ومسندًا إلى الله تعالى من حيث إن وجودهُ بتأثيره فله جهتان بإحداهما ينفي الجبر وبالأخرى ينفي القدر وإسناده إلى الله حقيقة وإلى العبد عادة وهي صفة يترتب عليها الأمر والنهي والفعل والترك فكل ما أسند من أفعال العباد إلى الله تعالى فهو بالنظر إلى تأثير القدرة ويقال له الخلق وما أسند إلى العبد إنما يحصل بتقدير الله تعالى، ويقال له الكسب وعليه يقع المدح والذم كما يذم المشوّه الوجه ويحمد الجميل الصورة، وأما الثواب أو العقاب فهو علامة والعبد إنما هو ملك لله يفعل فيه ما يشاء والله أعلم.

وقوله تعالى: (﴿إنّا كل شيء خلقناه بقدر﴾ [القمر: ٤٩]) مقدرًا مرتبًا على مقتضى الحكمة أو مقدرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ معلومًا قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه وكل شيء منصوب على الاشتغال وقرأ أبو السمال بالرفع ورجح الناس النصب بل أوجبه ابن الحاجب حذرًا من لبس المفسر بالصفة لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السُّنَّة وذلك لأنه إذا رفع كان مبتدأ وخلقناه صفة لكل أو لشيء وبقدر خبره، وحينئذٍ يكون له مفهوم لا يخفى على متأمله فيلزم أن يكون الشيء الذي ليس مخلوقًا لله تعالى لا بقدر وقال أبو البقاء وإنما المكان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق والرفع لا يدل على عمومه بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر اهـ.

وإنما دل النصب في كل على العموم لأن التقدير إنّا خلقنا شيء خلقناه بقدر، فخلقناه تأكيد وتفسير لخلقناه المضمر الناصب لكل وإذا حذفته، وأظهرت الأول صار التقدير إنّا خلقنا كل شيء بقدر فخلقناه تأكيد وتفسير لخلقنا المضمر الناصب لكل له شيء فهذا لفظ عام يعم جميع

المخلوقات ولا يجوز أن يكون خلقناه صفة لشيء لأن الصفة والصلة لا يعملان فيما قبل الموصوف ولا الموصول ولا يكونان تفسيرًا لما يعمل فيما قبلهما، فإذا لم يبق خلقناه صفة لم يبق إلا أنه تأكيد وتفسير للمضمر الناصب وذلك يدل على العموم، وقد نازع الرضى ابن الحاجب في قوله السابق فقال المعنى في الآية لا يتفاوت بجعل الفعل خبرًا أو صفة وذلك لأن مراد الله تعالى بكل شيء كل مخلوق نصبت كل أو رفعته سواء جعلت خلقناه صفة كل مع الرفع أو خبرًا عنه وذلك أن قوله خلقنا كل شيء بقدر لا يريد به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق الممكنات غير المتناهية ويقع على كل واحد منها اسم شيء فكل شيء في هذه الآية ليس كما في قوله تعالى والله على كل شيء قدير لأن معناه أنه قادر على كل ممكن غير متناهٍ فإذا تقرر هذا قلنا إن معنى كل شيء خلقناه بقدر على أن خلقناه هو الخبر كل مخلوق مخلوق بقدر وعلى أن خلقناه صفة كل شيء مخلوق كائن بقدر والمعنيان واحد إذ لفظ كل شيء في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان خلقناه

<<  <  ج: ص:  >  >>