المعاني على أن من جملة الأسباب المقتضية لتقديم المسند تشويق السامع إلى المبتدأ بأن يكون في المسند المقدّم طول يشوّق النفس إلى ذكر المسند إليه فيكون أوقع في النفس وأدخل في القبول لأن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب ولا يخفى أن ما ذكره القوم متحقّق في هذا الحديث بل هو أحسن من المثال الذي أورده وبثّه بكير وهو قول الشاعر:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها … شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
ومراعاة مثل هذه النكتة البلاغية هو الظاهر من تقديم الخبر على المبتدأ لكن رجح المحقق الكمال ابن الهمام ﵀ أن سبحان الله هو الخبر قال: لأنه مؤخر لفظًا والأصل عدم مخالفة
اللفظ محله إلا لموجب يوجبه. قال: وهو من قبيل الخبر المفرد بلا تعدد لأن كلاًّ من سبحان الله مع عامله المحذوف. الأول والثاني مع عامله الثاني إنما أريد لفظه والجمل المتعددة إذا أريد لفظها فهي من قبيل المفرد الجامد ولذا لا تتحمل ضميرًا ولأنه محطّ الفائدة بنفسه بخلاف كلمتان فإنه إنما يكون محطًّا للفائدة باعتبار وصفه بالخفّة على اللسان والثقل في الميزان والمحبة للرحمن. ألا ترى أن جعل كلمتان الخبر غير بيّن لأنه ليس متعلق الغرض الإخبار منه ﷺ عن سبحان الله إلى آخره أنهما كلمتان بل بملاحظة وصف الخبر بما تقدم أعني خفيفتان ثقيلتان حبيبتان فكان اعتبار سبحان الله إلى آخره خبرًا أولى وقد ذهب بعضهم إلى تعيين خبرية سبحان الله إلى آخره ووجهه بوجهين.
أحدهما: أن سبحان الله لزم الإضافة إلى مفرد فجرى مجرى الظروف والظروف لا تقع إلا خبرًا.
ثانيهما: أن سبحان الله إلى آخره كلمة إذ المراد بالكلمة في الحديث اللغوية كما تقدم فلو جعل مبتدأ لزم الإخبار عما هو كلمة بأنه كلمتان.
وأجيب: بأنه لا يخفى على سامع أن المراد اعتبار سبحان الله وبحمده كلمة وسبحان الله العظيم كلمة فهذا كما يصح أن يعبر عنه بكلمة كذلك يصح أن يعبر عن كل جملة منه بكلمة غير أنه لما كان كلٌّ من الجملتين أعني سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم مما يستقل ذكرًا تامًّا ويفرد بالقصد اعتبر كلمة وعبر عنهما بكلمتين على أن ما ذكره لازم على تقدير جعل سبحان الله الخبر كما هو لازم على تقدير جعله مبتدأ لأنه كما لا يصح أن يخبر عما هو بكلمة بأنه كلمتان كذلك لا يخبر عما هو كلمتان بما هو كلمة انتهى.
وفي هذا الحديث من علم البديع المقابلة والمناسبة والموازنة في السجع أما المقبلة فقد قابل الخفة على اللسان بالثقل وفي الميزان وأما الموازنة في السجع ففي قوله حبيبتان إلى الرحمن ولم يقل للرحمن لأجل موازنته على اللسان وفيه نوع من الاستعارة في قوله خفيفتان فإنه كناية عن قلة حروفهما ورشاقتهما. قال الطيبي: فيه استعارة لأن الخفة مستعارة للسهولة انتهى.
والظاهر أنها من قبيل الاستعارة بالكناية فإنه شبه سهولة جريانهما على اللسان بما يخف على الحامل من بعض الأمتعة فلا تتعبه كالشيء الثقيل فحذف ذكر المشبه به وأبقى شيئًا من لوازمه وهو الخفة وأما الثقل فعلى الحقيقة عند أهل السُّنّة إذ الأعمال تتجسم كما مرّ وفيه حثّ على المواظبة عليها وتحريض على ملازمتها وتعريض بأن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفوس ثقيلة وهذه خفيفة سهلة عليها مع أنها تثقل في الميزان، وقد روي في الآثار أن عيسى ﵇ سئل ما بال الحسنة تثقل والسيئة تخل؟ فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنّك ثقلها على تركها والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفّت عليكم فلا يحملنك على فعلها خفتها فإن بذلك تخف الموازين يوم القيامة، ويستفاد من هذا الحديث أن مثل هذا السجع جائز وأن المنهي عنه في قوله ﷺ سجع كسجع الكهان ما كان متكلفًا أو متضمنًا لباطل لا
ما جاء من غير قصد أو تضمن حقًّا، وفيه من علم العروض إفادة أن الكلام المسجع ليس بشعر فلا يوزن وإن جاء على وفق البحور في الجملة هذا مع ضميمة قوله تعالى: ﴿وما علمناه