للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

[سبأ: ٢٣] بابتداء إيحاء الله إلى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى.

وفي كتاب العظمة لأبي الشيخ عن وهيب بن الورد، قال: بلغني أن أقرب الخلق من الله تعالى إسرافيل العرش على كاهله، فإذا نزل الوحي دلي لوح من تحت العرش فيقرع جبهة إسرافيل فينظر فيه فيدعو جبريل فيرسله، فإذا كان يوم القيامة أُتيِ به ترعد فرائصه فيقال: ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول: بلغت جبريل، فيدعى جبريل ترعد فرائصه فيقال: ما صنعت فيما بلغك إسرافيل؟ فيقول: بلغت الرسل الأثر الخ.

على أن العلم بكيفية الوحي سر من الأسرار التي لا يدركها العقل، وسماع الملك وغيره من الله تعالى ليس بحرف أو صوت بل يخلق الله تعالى للسامع علمًا ضروريًا فكما أن كلامه تعالى ليس من جنس كلام البشر فسماعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سماع الأصوات، وإنما كان هذا الضرب من الوحي أشد على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غيره لأنه كان يردّ فيه من الطبائع البشرية إلى الأوضاع الملكية فيوحي إليه كما يوحي إلى الملائكة كما ذكر في حديث أبي هريرة وغيره، بخلاف الضرب الآخر الذي أشار إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: (وأحيانًا يتمثل) أي يتصور (لي) لأجلي، فاللام تعليلية، (الملك) جبريل. (رجلاً) أي مثل رجل كدحية أو غيره، فالنصب على المصدرية، أي يتمثل تمثل رجل أو هيئة رجل فيكون حالاً، قال البدر الدماميني: وقد صرح بعضهم بأنه حال ولم يؤوله بمشتق وهو متجه لدلالة رجل هنا على الهيئة بدون تأويل اهـ.

وتعقب بأن الحال في المعنى خبر عن صاحبه، فيلزم أن يصدق عليه، والرجل لا يصدق على الملك، وقول الكرماني وغيره إنه تمييز. قال في المصابيح: الظاهر أنهم أرادوا تمييز النسبة لا تمييز المفرد إذ الملك لا إبهام فيه، ثم قال: فإن قلت تمييز النسبة لا بدّ أن يكون محوّلاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقًا أي عرق زيد، أو المفعول نحو {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: ١٢] أي عيون الأرض، وذلك هنا غير متأتٍّ. وأجاب بأن هذا أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء. قال: ولو قيل بأن يتمثل هنا أجري مجرى يصير لدلالته على التحوّل والانتقال من حالة إلى أخرى، فيكون رجلاً خبرًا كما ذهب إليه ابن مالك في تحوّل وأخواته لكان وجهًا، لكن قد يقال: إن معنى يتمثل يصير مثال رجل، ومع التصريح بذلك يمتنع أن يكون رجلاً خبرًا له فتأمله اهـ.

وقيل: النصب على المفعولية على تضمين يتمثل معنى يتخذ، أي الملك رجلاً مثالاً لكن قال العيني: إنه بعيد من جهة المعنى. والملائكة كما قال المتكلمون أجسام علوية لطيفة تتشكل في أيّ شيء أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية، والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه، والظاهر أن القدر الزائد لا يفنى بل يخفى على الرائي فقط، ولأبي الوقت يتمثل لي الملك على مثال رجل (فيكلمني فأعي ما يقول) أي الذي يقوله فالعائد محذوف والفاء في الكلمتين للعطف المشير للتعقيب. وقد وقع التغاير بين قوله: وقد وعيت بلفظ الماضي، وفأعي بلفظ المضارع، لأن الوعي في الأوّل حصل قبل الفصم، ولا يتصوّر بعده، وفي الثاني في حالة المكالمة ولا يتصوّر قبلها. أو أنه في الأوّل قد تلبس

بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية كان حافظًا لما قيل له فأخبر عن الماضي، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة.

وليس المراد حصر الوحي في هاتين الحالتين بل الغالب مجيئه عليهما. وأقسام الوحي الرؤيا الصادقة ونزول إسرافيل أوّل البعثة كما ثبت في الطرق الصحاح أنه عليه الصلاة والسلام وكّل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وكل به جبريل وكان يأتيه في صورة رجل، وفي صورة دحية، وفي صورته التي خلق عليها مرتين، وفي صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، وعورض بأن ظاهره أنه إنما جاء سائلاً عن شرائع الإسلام ولم يبلغ فيه وحيًا اهـ. وفي مثل صلصلة الجرس والوحي إليه فوق السموات من فرض الصلاة وغيرها بلا واسطة، وإلقاء الملك في روعه من غير أن يراه، واجتهاده عليه

<<  <  ج: ص:  >  >>