للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

السلام فإنه صواب قطعًا وهو قريب من سابقه، إلاّ أن هذا مسبب عن النظر والاجتهاد، لكن يعكر عليه أن ظاهر كلام الأصوليين أن اجتهاده والوحي قسمان ومجيء ملك الجبال مبلغًا له عن الله تعالى أنه أمره أن يطيعه. وفي تفسير ابن عادل أن جبريل نزل على النبي أربعة وعشرين ألف مرة، وعلى آدم اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربعًا، وعلى نوح خمسين، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة، وعلى عيسى عشرًا كذا قاله والعهدة عليه.

(قالت عائشة ) أي وبالإسناد السابق بحذف حرف العطف كما هو مذهب بعض النحاة وصرح به ابن مالك وهو عادة المصنف في المسند المعطوف، وبإثباته في التعليق، وحينئذ فيكون مسندًا، ويحتمل أن يكون من تعاليقه، وتكون النكتة في قول عائشة هذا اختلاف التحمل، لأنها في الأوّل، أخبرت عن مسألة الحرث، وفي الثاني عما شاهدته تأييدًا للخبر الأوّل. ونفى بعضهم أن يكون هذا من التعاليق ولم يقم عليه دليلاً. وتعقب الحذف بأن الأصل في العطف أن يكون بالأداة. وما نص عليه ابن مالك غير مشهور وخلاف ما عليه الجمهور.

ومقول عائشة (ولقد رأيته) ، والواو للقسم واللام للتأكيد أي: والله لقد أبصرته (ينزل) بفتح أوّله وكسر ثالثه، ولأبي ذر والأصيلي ينزل بالضم والفتح (عليه) (الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم (فيفصم) بفتح المثناة التحتية وكسر الصاد، ولأبوي ذر والوقت فيفصم بضمها وكسر الصاد من أفصم الرباعيّ وهي لغة قليلة، وقال في الفتح ويروى بضم أوّله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وهي في اليونينية أيضًا أي يقلع (عنه، وإن جبينه ليتفصد) بالفاء والصاد المهملة المشدّدة أي ليسيل (عرقًا) بفتح الرأء من كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، إذ أنه أمر طارئ زائد على الطباع البشرية، وإنما كان ذلك كذلك ليبلو صبره فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوّة. وأما ما ذكر من أن يتقصد بالقاف فتصحيف لم يرو، والجبين غير الجبهة وهو فوق الصدغ والصدغ ما بين العين والأُذن، فللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة، والمراد والله أعلم أن جبينيه معًا يتفصدان.

فإن قلت: فلم أفرده؟ أجيب: بأن الإفراد يجوز أن يعاقب التثنية في كل اثنين يغني أحدهما عن الآخر كالعينين والأُذنين. تقول: عينه حسنة وأنت تريد أن عينيه جميعًا حسنتان قاله في المصابيح. والعرق: رشح الجلد.

وقال في الإمتاع: جعل الله تعالى لأنبيائه الانسلاخ من حالة البشرية إلى حالة الملكية في حالة الوحي، فطرة فطرهم عليها، وجبلة صوّرهم فيها ونزّههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بما ركب في غرائزهم من العصمة والاستقامة، فإذا انسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك ما يتلقونه عاجوا على المدارك البشرية لحكمة التبليغ للعباد، فتارة يكون الوحي كسماع دوي كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه. فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه. وتارة يتمثل له الملك الذي يلقى إليه رجلاً فيكلمه ويعي ما يقوله. والتلقي من الملك والرجوع إلى البشرية وفهمه ما ألقي إليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر، ولذا سمي وحيًا لأن الوحي في اللغة الإسراع كما مرّ. وفي التعبير عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بالمضارع لطيفة من البلاغة، وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي، فتمثلت حالته الأولى بالدوي الذي هو غير كلام. وإخبار أن الوعي والفهم يتبعه عقب انقضائه عند تصوير انفصال العبارة عن الوحي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع. وتمثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطبه ويتكلم: فناسب التعبير بالمضارع المقتضي للتجدّد وفي حالتي الوحي على الجبلة صعوبة وشدة، ولذا كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف، لأن الوحي مفارقة البشرية إلى الملكية فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها، وقد يفضي بالتدريج شيئًا فشيئًا إلى بعض السهولة بالنظر إلى ما قبله،

<<  <  ج: ص:  >  >>