لأن أهل المدينة جزء من الأمة لا كلها. والعبرة بما يرويه الراوي لا بما يعمل به، إذ ربما يعمل بخلاف ما روى خطأ أو نسيانًا، أو تأويلًا، فهو غير معصوم. وكون الأمر الذي جاءت به السنة كثير الوقوع لا تأثير له في قبول أو ردّ أخبار الآحاد؛ لأن الحاجة لمعرفة حكم ما يقل وقوعه كالحاجة لمعرفة حكم ما يكثر وقوعه، وكلاهما قد ينقله الآحاد فضلًا عن أن الكثرة أو القلة لا ضابط لها في هذا الباب. أما التشبث بمخالفة سنة الآحاد للأصول فغير مقنع، لأن السنة هي التي تؤصل الأصول، فإذا جاءت بحكم يخالف الأصول الثابتة، فإنها تعتبر أصلًا قائمًا بنفسه يعمل في دائرته، كما في السَلَم، مع أنه بيع معدوم. والاستقراء دل على أن المردود من سنة الآحاد الصحيحة السند، بحجة المخالفة للأصول أنه في الحقيقة موافق للأصول لا مخالف لها (أ). وأما التشبث بعدم فقه الراوي، فقول غير مستساغ لأن رواة السنة عندهم من الفقه، لملازمتهم للرسول ﷺ ما يكفي للاطمئنان بصحة نقلهم، وأنه لم يفتهم شيء من معناه، فضلًا عن معرفتهم بأساليب العربية وبيانها. وعلى هذا فقول الجمهور هو الراجح، فكل سنة صحّت بأن رواها الثقات الضابطون وجب المصير إليها، وعدم الالتفات إلى ما خالفها، ومن خالفها كائنًا من كان، لأن الله تعبّدنا باتباع سنة نبيه ﷺ، ولا سبيل للوصول إليها إلا عن طريق الرواة، فإذا ثبت عندنا ضبطهم وعدالتهم أو ترجح ذلك كان ذلك دليلًا على صحة نسبتها للرسول ﷺ إمّا على سبيل العلم القاطع (ب)، أو الظن الراجح (جـ)، وكلاهما يوجبان العمل بها شرعًا، والتقيد بأحكامها، وجعلها دليلًا من أدلة الأحكام. (٢) قلت: بل أوردها أبو داود في رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه (ص ٢٧ - ٢٨) تحقيق الدكتور محمد بن لطفي الصباغ.