للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أيوبَ وغيرهِ وردَ بصيغةٍ واحدةٍ تعمُّ الاستقبالَ والاستدبارَ فكيفَ وهوَ قد وردَ بصيغتينِ: صيغةٍ دلتْ على منعِ الاستقبالِ، وصيغةٍ دلَّتْ على منعِ الاستدبارِ، فغايةُ ما في حديثِ ابن عمرَ تخصيصُ الصيغةِ الثانيةِ لأنه وارِدٌ في البُنيانِ، وهي عامَّةٌ لكلِّ استدبارٍ، ويمكن أيضًا تأييدُ المذهبِ الثاني مِنْ هذهِ الأربعةِ بأنَّ الاستقبالَ في البنيانِ مُقَاسٌ على الاستدبارِ ولكنَّه يخدُشُ فيهِ ما قالهُ ابنُ دقيقِ العيدِ (١): "إنّ هذا تقديمٌ للقياسِ على مُقتضَى اللفظِ العامِّ وفيهِ ما فيهِ على ما عُرِفَ في أصولِ الفقهِ، وبأنَّ شَرْط القياسِ مساواةُ الفَرْعِ للأصلِ أو زيادةٌ عليه في المعنى المعتبرِ في الحكمِ، ولا تساوي هاهنا، فإنَّ الاستقبالَ يزيدُ في القُبْحِ على الاستدبارِ على ما يشهدُ به العرفُ، ولهذا اعتبرَ بعضُ العلماءِ هذا المعنى فمنعَ الاستقبالَ، وأجازَ الاستدبارَ، وإذا كانَ الاستقبالُ أزيدَ في القُبحِ من الاستدبارِ فلا يلزمُ من إلغاءِ المفسدةِ الناقصةِ في القُبحِ في حُكمِ الجوازِ إلغاءُ المفسدةِ الزائدةِ في القبحِ في حُكمِ الجوازِ" انتهى.

وفيه أن دَعوى الزيادةِ في القُبح ممنوعةٌ، ومجرَّدُ اقتصارِ بعضِ أهلِ العلمِ على منعِ الاستقبال ليسَ لكونهِ أشدَّ بلْ لأَنه لم يقمْ دليلٌ على جوازِهِ، كما قامَ على جوازِ الاستدبارِ، والتخصيصُ بالقياسِ مذهبٌ مشهورٌ راجحٌ، وهذا على تسليمِ أنه لا دليلَ على الجوازِ إلا مجرَّدَ القياسِ. وليسَ كذلكَ، فإنَّ حديثَ جابرٍ الآتي بلفظِ أنه رآهُ قبلَ أن يُقبضَ بعامِ [مُستقبِلَ] (٢) القِبلَةِ، نصٌّ في محلِّ النزاعِ لولا ما أسلفناهُ في البابِ الأوَّلِ من أن فعلَهُ لا يُعَارضُ قولَه الخاصَّ بنا كما تقرَّرَ في الأصولِ.

ويمكنُ تأييدُ المذهبِ الثالثِ من الأربعةِ بأنَّ الاستدبارَ في الفضاءِ [مُلحقٌ] (٣) بالاستدبارِ في البنيانِ، لأنَّ الأمكنةَ أوصافٌ طَرْدِيَّةٌ مُلغاةٌ، ويقدحُ فيه ما سلَفَ.

وأما المذهبُ الرابعُ فلا مَطعنَ فيهِ إلَّا ما ذكرنَاهُ [مِنْ] (٤) أنه لا تعارُضَ بينَ قولهِ الخاصِّ بِنَا وفعلِهِ، لا سيَّما ورؤيةُ ابن عمرَ كانتْ اتفاقيةَ مِنْ دونِ قَصْدٍ منهُ ولا مِنَ الرَّسُولِ . فلو كانَ يترتَّبُ على هذا الفعلِ حُكْمٌ لعامَّةِ الناسِ لبيَّنه لهم، فإنَّ الأحكامَ العامَّةَ لا بُدَّ مِنْ بيانِها فليسَ في المقامِ ما يَصْلُحُ للتمسُّكِ به


(١) في "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (١/ ٥٧ - ٥٨).
(٢) في (جـ): (يستقبل).
(٣) في (جـ): (يلحق).
(٤) زيادة من (أ) و (ب).

<<  <  ج: ص:  >  >>