وقال ابن القيم في "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء" (ص ١٠٣ - ١٠٤) والتحقيق في السماع أنّه مركب من شبهةٍ وشهوة، وهما الأصلان اللذان ذمَّ الله من يتبعهما ويحكّمهما على الوحي الذي بعث به أنبياءه ورسله. قال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: ٢٣]. فالظن الشبهة وما تهوى الأنفس الشهوة والهدى الذي جاءنا من ربنا مخالف لهذا. فال تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: ٦٩]. فالاستمتاع بالخلاق وهو النصيب هو الشهوة، والخوض هو الكلام بمقتضى الشبهة فهذان الداءان هما داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله وقليل ما هم، وهذا السماع قد تركب أمره من هذين الأصلين. فأمَّا الشبهة التي فيه فهي تعلُّق أهله بالشبهة التي يستندون إليها في فعله، كقولهم حضرةُ سادات المشايخ ومن لا يُطعن عليه، وأقرَّه النبي ﷺ في بيته، وسمع الحُداء وهو ضربٌ من سماع الغناء وسمع الشعر وأجاز عليه … وما هو صريح في الدلالة فكذبٌ موضوعٌ على رسول الله ﷺ. ومن الشبهة التي فيه أنَّ الروح متى سمعت ذكر المحبة والمحبوب والقرب منه ورضاه حرك ذلك لمن في قلبه شيء من المحبة الصادقة وهذا أمره لا يمكن دفعه، فهذا نصيب الشبهة منه. وأمّا الشهوة فهي نصيب النفس منه، فإن النفس تلتذُّ بسماع الغناء وتطرب بالألحان المطربة، وتأخذ بحظها الوافر منه، حتى ربما أسكرها وفعل فيها ما لا يفعله الخمر، فإنَّ الطباع تنفعل للسماع والصورة، والخمرة تسكر النفوس بها أتمَّ سكر، ولهذا قال الله تعالى في اللوطية لما أخذهم العذاب: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢)﴾ [الحجر: ٧٢]. (١) في المخطوط (ب): (ابن) وهو خطأ. (٢) تقدم برقم (٣٥٥٨) من كتابنا هذا. وتقدم التعليق عليه بإسهاب.