للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكلِّ ما قيل فيهم من تعديل أو جَرْح، وغيرُ ذلك كثيرٌ، حتى بات حُجَّتَه وناقِدَه، مما ساعد ذلك الإمامَ الشوكانيُّ في متابعة حياتِه العلميةِ والعمليةِ بالتدريس والتأليفِ في فنون عدة، رُغمَ مشاغلِه ومسؤولياتِه، وشراسةِ خصومِه، وجَهالةِ الجامدين المتعصّبين، وميلهم إلى التقليد، وإعراضِهم عن العمل بالبرهان.

ولْنستمع إليه وهو يُخبرنا عن ذلك في كتابه: "أدب الطلب" (١): "وإني أُخبرُك أيها الطالبُ عن نفسي، وعن الحوادث الجاريةِ بيني وبين أهلِ عصري، ليزدادَ يقينُك وتكونَ على بصيرة فيما أرشدتُك إليه: … كنتُ بعد التمكّنِ من البحث عن الدليل والنظرِ في مجاميعه أذْكُر في مجالس شيوخي، ومواقفِ تدريسِهم، وعند الاجتماعِ بأهل العلم، ما قد عرَفتُه من ذلك، لا سيما عند الكلام في شيء من الرأي مُخالفٍ للدليل، أو عند ورود قول عالمٍ من أهل العلم قد تمسَّك بدليل ضعيف وترك الدليلَ القويَّ، أو أخْذٍ بدليل عامٍ وبعمل خاصٍّ أو بمطلقٍ وطرحَ المقيّدَ، أو بمُجمل ولم يَعرِفْ المبيَّنَ، أو بمنسوخٍ ولم يَنتَبِهْ للناسخ، أو بأوَّل ولم يعرِفْ بآخرَ، أو بمحضِ رأْيٍ ولم يبلُغْه أن في تلك المسألةِ دليلًا يتعيّن العمل به، فكنتُ إذا سمِعتُ بشيء من هذا، لا سيما في مواقف المتعصبين، ومجامع الجامدين - تكلمتُ بما بلغتْ إليه مقدرتي، وأقلُّ الأحوال أن أقول: استدل هذا بكذا، وفلانٌ المخالفُ له بكذا، ودليلُ فلانٍ أرجحُ لكذا، فما زال أُسَراءُ التقليدِ يستنكرون ذلك ويستعظمونه، لعدم الفهمِ به، وقَبولِ طبائعِهم له حتى ولّد ذلك في قلوبهم من العداوة والبغضاءِ ما اللَّهُ به عليمٌ.

ثم كنتُ إذا فرغتُ من أخذ فنٍ من الفنون، أو مصنَّفِ من المصنفات على شيوخي - أقبل جماعةٌ من الطلبةِ إليَّ، وعوَّلوا عليَّ في تدريسهم في ذلك، فكان يأخذُ أترابي شيء من الحسد الذي لا يخلو عنه إلا القليلُ، ثم تكاثر الطلبةُ عليَّ في علوم الاجتهادِ وغيرِها، وأخذوا عني أخذًا خاليًا عن التعصب، سالمًا من الاعتساف، فكنتُ أقرِّر لهم دليلَ كلِّ مسألةٍ، وأوضح لهم الراجحَ فيها وأصرح لهم بوجوب المصير إلى ذلك، وكانوا قد تمرّنوا وعرَفوا علومَ الاجتهاد، وذهب عنهم


(١) ص ٣٨ - ٤٠ بتحقيقنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>