ما تكدَّرت به فِطَرُهم من المغيِّرات، فزاد ذلك المخالِفين عداوةً ومناعةً وحسدًا وبغضًا، وأطلقوا ألسنتَهم بذلك، وكان مع ذلك تردُ إليَّ أبحاثٌ من جماعة من أهل العلمِ الساكنين بصنعاءَ، وغيرِهم من أهل البلاد البعيدة والمدائنِ النائية، فأحرِّر الجواباتِ عليهم في رسائلَ مستقلةٍ، مما يرغّب تلامذتي لتحصيل ذلك، وتنتشر في الناس، فإذا وقف عليه المتعصبون، ورأوه يخالِف ما يعتقدون، استشاطوا غضبًا، وعرَضوا ذلك على من يرجون منه الموافقةَ والمساعدةَ، فمِن ثالِبٍ بلسانه، ومُعترضٍ بقلمه، وأنا مُصمِّمٌ على ما أنا فيه، لا أنثني عنه، ولا أَميل عَن الطريقة التي أنا فيها، وكثيرًا ما يرفعون ذلك إلى من لا عِلمَ عنده من رؤساء الدولةِ الذين لهم في الناس شهرةٌ وصَولةٌ، فكان في كل حينٍ يبلُغني من ذلك العَجبُ، ويناصحني مَنْ يُظهر لي المودَّةَ، وَمَنْ لا تخفى عليه حقيقةُ ما أقولُه وحقِّيتُه، مع اعترافهم بأن ما أسلُكُه هو ما أخذه اللَّهُ على الذين حمَلوا الحجةَ، لكنهم يتعلَّلون بأن الواجب يسقُط بدون ذلك، ويذكرون أحوالَ أهلِ الزمان، وما هم عليه، وما يخشَونه من العواقب، فلا أرفع لذلك رأسًا، ولا أعوِّل عليه … " اهـ.
وأما كتابُ (نيل الأوطار) فإنه يُعَدّ من أجلِّ مؤلفاتِ الإمام الشوكانيِّ وأشهرِها، بل لعله أكثرُها متانةً تُنْبئ عن عظيم الجُهدِ المبذولِ فيه، رغم أنه يعتبر باكورةَ نتاجِه العلميِّ الموسوعيِّ الكبير.
وقد شرَع في تأليفهِ بإرشاد شيخيه العالِمَيْن الكبيرين عبدِ القادر بن أحمدَ والحسنِ المَغربِي وأتمَّه بعد موتِهما، أي في بداية تولّيه منصِب القضاءِ الأكبرِ عام - ١٢٠٩ هـ - ١٧٩٤ م - فقد توفي الأول عام - ١٢٠٧ هـ - ١٧٩٢ م - والآخر في السنة التي تليها (١).
وبهذا توفر للشوكاني عواملُ التفرُّغِ الكاملِ قبلَ الانشغالِ بالقضاء الذي شكا منه كثيرًا، واستقامت له غزارةُ المعارفِ التي نهل من مَعينها، وارتباطُه بكل المصادرِ والمراجع تدريسًا وانطلاقًا في مرحلة متقدمةِ هي بلوغُه درجةَ الاجتهادِ وتصدّرُه قبل ذلك للإفتاء.