للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قال ابن الأثير (١): هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواصّ الأولياء، ولا يرد عليه وقوع مثل ذلك من النبيّ فعلًا وأمرًا لأنه كان في أعلى مقامات العرفان، ودرجات التوكل.

فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص من توكله؛ لأنه كان كامل التوكُّل يقينًا، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئًا، بخلاف غيره، ولو كان كثير التوكل، فكان مَنْ ترك الأسباب، وفوّض وأخلص؛ أرفع مقامًا.

قال الطبري (٢): قيل: لا يستحقّ اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوفٌ من شيء البتة، حتى السبع الضاري، والعدوّ العادي، ولا يسعى في طلب رزقه ولا في مداواة ألم.

والحقُّ: أن من وثق بالله؛ وأيقن أن قضاءه عليه ماضٍ؛ لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعًا لسنته وسنة رسوله.

فقد ظاهر بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحقّ الخلق أن يحصل له ذلك.

وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أو يتوكل؟: "أعقلها وتوكل" (٣)، فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل.


(١) في النهاية (١/ ٦٨٣).
(٢) لعله القرطبي كما في "الفتح" (١١/ ٤٠٩).
قال القرطبي في "المفهم" (١/ ٤٦٧): "واختلف العلماءُ في التوكل، وفيمن يستحقُّ اسم المتوكل على الله، فقالت طائفةٌ من المتصوفة: لا يستحقه إلَّا من لم يخالط قلبَه خوفُ غير الله من سبُع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق؛ لضمان الله تعالى.
وقال عامةُ الفقهاء: إنَّ التوكلَ على الله تعالى هو الثقةُ بالله، والايقانُ بأنَّ قضاءَهُ ماضٍ، واتباعُ سنة نبيه في السعي فيما لا بُدَّ منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو، وإعداد الأسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنةُ الله تعالى المعتادة، وإلى هذا ذهب محقّقو المتصوفة … ".
(٣) أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (٧٣١) والحاكم (٣/ ٦٢٣) والقضاعي في مسند الشهاب رقم (٦٣٣) بسند حسن من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه. =

<<  <  ج: ص:  >  >>