للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩]).

فالأيمان - كما ذَكَرْنَا - إما أيمانٌ لغويَّةٌ وهي التي لا يعقد الحالف قلبه عليها، وإنما تَرِدُ دارجةً على لسانه أثناء حديثه؛ فهذه تأخذ مسمى الأيمان لكن لا ينبني عليها حُكْمٌ، وهي التي أشار الله إليها بقوله: {لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥].

وإما أيمانٌ غير لغوية، وهي المقصودة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩]؛ فهي منعقدةٌ بمعنى أن القلب قد انعقد عليها، وحَدَثَ عزمٌ إما على فعلٍ أو على تركٍ، كأن يقول الحالف: (والله لأفعلن كذا، أو لأصومن شهرًا، أو لأجتنبن كذا) بصيغة تدل على المستقبَل، فهذه يمينٌ مشروعةٌ، إن بَرَّ بها ينتهي الأمر عند ذلك، وإن حَنَثَ فيها لَزِمَتْهُ كفارةُ الحنث بيمينه.

أما النوع الخطير من الأيمان فهي أن يَحلِف كاذبًا على شيءٍ قد مَضَى وهو عالمٌ؛ لِيَخدَع الناس أو لِيُقِيمَ شهادةَ زُورٍ أو لِيَستَوْلِيَ على حقِّ أخيه المُسلِمِ من غير حقٍّ، فقد جاء في الحديث: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" (١)، وما أَشَدَّهَا مِن عقوبةٍ، فكل المؤمنين في هذه الحياة الدنيا إنما يَسعَون لِيَلقَوا ربَّهم وهو راضٍ عنهم، كما قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)} [القيامة: ٢٢، ٢٣]، هذه هي السعادة، وهذا هو الكسب الذي يسعى الإنسان إلى الوصول إليه.


= مذهب الشافعية، يُنظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (٤/ ٢٤١)؛ حيث أفاد أن: كل يمين لا تعد لغوًا عندهم فهي منعقدة، فيدخل فيها الغموس، كما يدخل فيها الحلف على المستقبل الممكن.
مذهب الحنابلة، يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (٦/ ٣٦٧ - ٣٦٩)؛ حيث قال: "اليمين على المستقبل إذا كان التلفظ بها مقصودًا، وكان الحالف مختارًا، وكانت على ممكن أو على إثبات مستحيل أو نفي واجب".
(١) تقدَّم تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>