الدليل الأول: أن مجيء الآية على هذا النسق والترتيب هو في حد ذاته دليل يجب اتِّباعه.
الدليل الثاني: قوله -صلى الله عليه وسلم- عندما صَعدَ الصَّفَا:"ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ"(١)، ورغم عَدَم ورود هذا الحديث في الوضوء إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيجب البدء بما بدأ الله سبحانه وتعالى به.
الدليل الثالث: أنه من المعلوم في لغة العرب أنهم إذا ذَكَرُوا أشياءَ متجانِسَةً، فإنهم يذكرونها مُتَوَالِيَةً، ولا يُدخِلُونَ بين النَّظيرَيْن غيرَ مُجَانِسٍ لهما إلا لِسَبَب، والله سبحانه تعالى في هذه الآية ذَكَرَ غَسْلَ الوجه، ثم غَسْلَ اليدَيْن، ثم ذَكَرَ بعد ذلك مَسْحَ الرَّأْسِ قبل أن يَذكُرَ غَسْلَ الرِّجلَين، فهاهنا جاء ذِكْرُ ممسوحٍ بين مَغسُولَيْنِ، وهذا الفصل بين النَّظيرَين بغير مُجَانِسٍ لهما لا يأتي في لغة العرب إلا لغايةٍ وغَرَضٍ، فلا نرى غايةً في مثل هذا الأمر إلا الترتيب مما يدلُّ على تَعَيُّنِ الترتيب ووجوبه.
الدليل الرابع: أن من عادة العرب أنهم إذا ذَكَرُوا الأشياء المتقاربة، فإنهم يَذكُرون الأقربَ فالأقربَ، ولا يضعون أَبْعَدَ بين أَقْرَبَيْنِ إلا لغايةٍ وفائدةٍ لُغَويَّةٍ، والله سبحانه وتعالى قال:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، ثمَّ قَالَ:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}، فَذِكْرُ اللهِ تَعَالى لليدين بين الوجه والرأس إنما هو من بَاب ذِكْرِ الأبَعْدِ بين الأَقْرَبَين؛ لأنَّ الرأسَ أَقْرَبُ إلى الوجه من اليدين، فلا بد مِنْ وجود علَّةٍ لُغَويَّةٍ وغايةٍ شرعيةٍ في هذا، هذه العلة والغاية إنما هى وجوب التَّرتيب الوارد في الآية.
الدليل الخامس: أن الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- لم يُنْقَل عنه في صفة وضوئه أنه تَوَضَّأَ بغير هذا الترتيب، هذا مع تَعَدُّدِ مَنْ نقلوا صفة وضوئه -صلى الله عليه وسلم- وكثرتهم، بَلْ إن كل الأحاديث التي وردَت في هذا الشأن اتفقَت على ترتيبه -صلى الله عليه وسلم- على
(١) أخرجه النسائي (٢٩٦٢)، وهذا اللفظ بصيغة الأمر شاذ. وانظر: "إرواء الغليل" للأَلْبَانيِّ (١١٢٠).