ولَمْ يَكن تأليفُ العُلُوم فيما مَضَى على ما نجده الآن، فلم تكن العلومُ مُؤلَّفةً منفصلًا بعضها عن بعض، بل كان الحديث مرتبطًا بالفقه، والفقه مرتبطًا بالحديث، كما رأينا في "موطإ مالكٍ"، ثم أَخذ العلماء يهتمُّون بالحديث، وَرَأوا أن العنايةَ في أمر الجرح والتعديل والحديث، وفي العناية برواية الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبَيَان صحيحها من سَقِيمِها وضَعِيفِها، والوقوف عند تلك الأحاديث، وكتابتها، وتدوينها، والتنبيه عليها.
ولَا تَزَال العنايةُ -بفَضْل الله- بهذا العلم إلى هذَا اليوم حتَّى صَدَرت المُدوَّنات الكبيرة؛ ككتاب "المغني" لابن قدامة الحنبلي، وهو حَقيقَةً ليس في فقه الحنابلة فَقَط، وإنما يَحْوي فقه الأئمة الأربعة عمومًا، وفي "المجموع" للنووي، وهو أيضًا وإنْ ركز على فقه الشافعية، وفَصَّل القول في فُرُوعه، وفي أقواله، وروايته وتخريجاته، فإنه أيضًا يعرض لأقوال العلماء، ويُبين الأدلة، ويبين الصحيح منها، وخصوصًا القسم الذي ألَّفه الإمام النووي رحمهُ اللهُ، والذي أيضًا تلَاه وأتمَّه السبكي ثم المطيعي، وغيرهما؛ كـ"المحلَّى" لابن حزم، إلا أنَّ هذا الكتاب مَع ما فيه من مسائلَ عظيمةٍ، وعنايةٍ بالآيات وبالأحاديث، وفيه أيضًا آراء قوية إلا أنه ينبغي ألا يطلع على هذا الكتاب إلا طالب علمٍ متمكن؛ لأن صاحبه له شطحات، ولَه كَلامٌ في بعض الأئمة، وَفِي بَعْضَ العلماء، وَلَه أيضًا شُذُوذٌ في بعض المَسَائل المعروفة لا نريد أن نَعْرضَ لهَا، وقَدْ نعرض لبَعْضها عندما تُقَابلنا، لكن طالب العلم -وخصوصًا الذي لا يزال في أول الطريق- لا ينبغي أن يُقْدمَ على التعمُّق في الاطلاع على مثل هذه الكتب، فربما تُولِّد عنده بعض البلبلة، أو ربما التَّخوف، أو تُولِّد عنده بعض الأمور التي يخرج فيها عن بعض المسائل التي ينبغي أن يكون وَقَّافًا فيها، وخصوصًا ما يتعلق بكلامِهِ عن الأئمة، وبعض المسائل التي شذَّ بها، لكنه مع ذلك عالمٌ جليلٌ، خدَم الفقهَ الإسلاميَّ عمومًا، بَلْ أحيانًا قَدْ لا نجد بعضَ الأحَاديث والمرويَّات إلا في ذَلكَ الكتاب.