مُحَدِّثًا، لا، وإنما قد ظهر في علم الحديث، وبرز فيه واشتهر، لكنه كان فقيهًا مُتَقصِّيًا متمكنًا من علم الفقه، وَسنُبيِّن ذَلكَ -إن شَاءَ الله- عندما ندخل في دراسة المسائل.
جَاءَ بعد ذلك التلاميذ، وعُنُوا بهذه الثروة العظيمة، ثمَّ جاء بعد ذلك تَلَاميذ التلاميذ، فَوَجدوا أمامهم هذه الثروة الهائلة العظيمة، ووقفوا حَيارَى أمامها ماذا يفعلون؟ فَبَدؤوا يبحثون عن علل الأحكام، لماذا قال أبو حنيفة كذا؟ ولماذا قال مالك؟ ولماذا قال الشافعي وأحمد والثوري وغير هؤلاء؟ أخذوا يبحثون عن العلل التي علَّل بها الأئمة، وَحَكموا وَقَاسوا، أَو اصطلحوا على هَذِهِ المسألة.
فَبَحثوا حتَّى وقفوا على تلك العلل، فأخذوا يُخَرِّجون على أقوال أولئك الأئمَّة حتى اتسعت دائرة الفقه الإسلامي، ودُوِّن وسُجِّل في موسوعاتٍ ضخْمَةٍ.
ثمَّ بعد ذلك جاء التلاميذ، وانتقلوا إلى طورٍ آخر من أطوار الفقه الإسلامي، فبدؤوا يُدوِّنون كتبًا تتعلق بالخلاف بين المذاهب، كَمَا الخلاف بين الحنفيَّة والشافعيَّة في بعض كتب الحنفية، وفي بعض كُتُب الشَّافعيَّة، ومن تلك الكُتُب كتاب "الأسرار" للدَّبوسي.
ثمَّ بَعْدَ ذَلكَ انتقلَ العُلَماءُ إلى طورٍ مهمٍّ جدًّا، وهو العناية بالدَّليل، وهَذَا في الحقيقَة هو الذي يُعْطي الفقه الإسلامي رَوْنقه، ويحافظ على أهميَّته ومكَانته، وهو الذي سنُعْنى به -إن شاء الله- في دِرَاسَتنا للفِقْهِ.
لَا شكَّ أنَّ الفقهَ إنَّما تظهر قيمتُهُ، وتَعْلو مكانتُهُ عندما يُدْرَس على ضَوْء كتاب الله عزَّ وجلَّ، وَسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّه في الأصل مَأخوذٌ من هَذَين المصدرين والينبوعين اللَّذين لا ينضبان، وهو أيضًا إنْ لَمْ يؤخذ منهما مباشرةً، فإنه يُؤْخذ منهما بواسطةٍ، أو من مَقَاصد هذين المصدرين العظيمين.