للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"المدوَّنة" لم يكن كل ما فيها هو رأيٌ لمالكٍ، لَكن كَانَ ابن القاسم أحد تلاميذ الإمام مالكٍ وأشهرهم يسأل الإمامَ مالكًا عن بَعْض المسائل، وكان الإمامُ مَالِكٌ يتوقَّف في المَسَائل التقديريَّة التي تُعْرف بـ"الفقه الافتراضي"، وقَدْ يجيب عن بعضها أحيانًا، فنجد أن ابن القاسم يُجيب عن تلك المَسْألة التي سُئِلَ عنها الإمام مالك وتوقف فيها، لا لأنَّ الإمام مالكًا لا يعلم، وإنما قد يتوقف، وليس بعيدًا أن يكون أحد الأئمة الأربعة لا يعلم، فَالإمَامُ مَالكٌ -رحمه الله تعالى- توقَّف عن مسائلَ، وقال: "ما منا إلا رادٌّ ومردود إلا صاحب هذا القبر" (١)، وهَكَذا الشأن في بقيَّة الأئمَّة رضوان الله عليهم.

ثمَّ جاء الإمام الشافعي أيضًا رحمهُ اللهُ بعد ذلك وهو ممن دَوَّن بتوسعٍ الفقهَ، فدوَّن رسالته العظيمة التي في أصول الفقه "الرسالة"، والتي كانت أول نواةٍ ظهرت في علم أصول الفقه، والحنفية يدَّعون أنهم سَبَقوا إلى هذا العلم، ولكننا نقول: إن علم أصول الفقه لم يكن مجهولًا في الحقيقة، بَلْ كان مركوزًا في النُّفُوس، فالصَّحابةُ -رضوان الله عليهم- كانوا يعرفون الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيَّد، والأمر والنهي، لكن أول من اشتهر بتدوين هذا العلم العظيم وأظهره إنما هو الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمهُ اللهُ.

أما الإمام أحمد، فإنه دوَّن كتابه في الحديث الَّذي هو هذا "المسند" العظيم، الذي يجمع ما بين ثلاثين إلى أربعين ألف حَدِيثٍ، وله أيضًا مسائلُهُ العظيمةُ الكبيرةُ الَّتي نقلها عنه بعض أصحابه وتلاميذه، ويأتي في مقدمتها مسائله التي نقلها عنه ابنه عبد الله، وابنه صالح، ومسائل إسحاق بن منصور.

وليس كما يقول بعضهم بأن الإمام أحمد لم يكن فقيهًا، وإنما كان


(١) يُنظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (٢/ ٣٠٧)؛ حيث قال: "وقال مالكٌ: ما من أحدٍ إلا يُؤْخذ من قوله ويترك إلا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ".

<<  <  ج: ص:  >  >>