إذًا في هذا ثبات أيضًا للسانه، فإذا ما ثبت اللسان على الحق، فإنه لا يقول إِلَّا بحق، ولا ينطق إِلَّا بصدق، فإذا ما كان القاضي على هذا النهج، قد هدي قلبه، وثبت لسانه على الحق، فسيكون قضاؤه موافقًا للحق.
ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - مفسرًا له ذلك:"فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول". إذًا تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، ولذلك أُثر عن علي - رضي الله عنه - أنه قال:"لو جاءه الخصم يشكو ويده في عينه"، أي: قد قلعها، قال:"لا أقضي حتى يأتي الآخر، فربما قلع المدعي عيني الآخر".
إذًا أرشده الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى طريقة القضاء، وقال له:"فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء". وكان أثر ذلك أن قال علي - رضي الله عنه -: "فما زلت قاضيًا، أي: ما زلت أقضي بين الناس".
ولا شك أن توجيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان له أعظم الأثر في نفسه، وفي رواية أنه قال:"وما شككت في قضاء بعد". أي: أن نفسه اطمأنت إلى القضاء، فكان يصدر الحكم ونفسه مطمئنة له، وفؤاده مرتاح، وقلبه سعيد بما يصدر منه؛ لأنه كان يسير في ضوء الكتاب، وعلى منهج سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
هذا الحديث استدل به الحنفية ومن معهم بأنه لا يقضى على الغائب، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا تقضين … ".
لكن الجمهور أجابوا عن هذا الحديث بأنه ليس المراد بذلك الغائب، وإنما المراد به الغائب عن المجلس، الحاضر في البلد، يعني ألا يحكم لأحد الشخصين والآخر موجود، ولكنه غير حاضر، فلا يقضي لهذا حتى يسمع من الآخر.