مسلم الزهري واشتهر بين علماء الفقه والحديث بالإمام الزهري، وهو من جهابذة علم الحديث وله مكانة عظيمة فيه، وهو أحد التابعين الذين نهلوا من علم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخذه صافيًا نقيًا لم تشبه شائبة ولم تخالطه أكدار؛ لأن الصحابة أخذوه من مشكاة النبوة نقيًا غير كدر.
فهو تلقى عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- في له مكانة عظيمة وله جهود عظيمة، وهو من مقدمة العلماء الذين اختارهم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رضي اللَّه عنه- عندما أقدم على تدوين سُنّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فالسُنّة لم تُكتَب في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وما كُتِبَ من ذلك إنما هي شذرات يسيرة، كما جاء في الحديث الصحيح وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"اكتبوا لأبي شاه".
وعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- كان ينزل القرءان في مواضعَ كثيرةٍ مؤيدًا لرأيه، وحين أراد أن يُقدم على كتابة أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تردد في ذلك وتوقف، والسبب الذي دفعه ودفع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ألا يُقدموا على كتابة الحديث هو خوفهم أن يختلط الحديث بكتاب اللَّه عزَّ وجلَّ-.
فالصحابة -رضي اللَّه عنهم- لم يكونوا عازفين عن كتابة الحديث ولا معرضين عنها، وإنما تركوا ذلك لأمر جلل وهام ألا وهو خشية اختلاط الحديث بكتاب اللَّه عزَّ وجلَّ، فلما تمت كتابة المصحف في زمن عثمان -رضي اللَّه عنه- ووزع المصحف على الأمصار، واطمأن العلماء لذلك، فلما جاء زمن عمر بن عبد العزيز -رضي اللَّه عنه- خشي أن تُنسى السُنّة وربما يموت الذين حفظوها في صدورهم، فأراد أن تدون أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتب مسطورة لتتلقاها الأمة، وقد يسر اللَّه سبحانه وتعالى في هذه الأمة من العلماء العاملين الذين عكفوا على دراسة وحفظ سُنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأفنوا فيها حياتهم ووقفوا أعمارهم في خدمة هذا الدين فعُنوا بها، فبيّنوا الحديث الصحيح من الضعيف وأبعدوا الموضوع عنها، وتتبعوا ذلك بكل عناية وتدقيق، ولا شكَّ أنَّ ما يُعرف بعلم السَنَد إنما هو مما اختص في هذه الأمة، كما أنها اختصت بما يُعرَف بعلم أصول الفقه.