في الأندلس، ومن يَقْرأ في كُتُب القانون يُدرِك أهمية ذلك، ومن هنا يتبيَّن لنا مدى خصوبة الفقه الإسلامي.
وَمَن الجدير بالذِّكْرِ أنَّ تَجَدُّدَ الحوادثِ والوقائعِ يَسْتَلزم على الدوام أن يكون هناك مَنْ يُعْنَى بهذا الفقه ويُمَحِّصُهُ، ولذا فإننا ننبه دائمًا على أنَّ دراسة الفقه إنما تكون دراسةً مقارنةً فاحصةً لا تَهْدُفُ إلى نُصْرة مَذهبٍ بعينه من المَذَاهب، بَلْ يجب أن تكونَ الغاية من دراسة الفقه هي معرفة الحق من أجل اتباعه كائنًا مَن كان صَاحِبُهُ، فلو أن إنسانًا يتبع مذهبًا من المذاهب، ثمَّ ظهر له بالدليل أن الحقَّ في غيره، فإنما يَتوجَّب عليه الرُّجوع إلى الحق، بل إن هذا هو تمام الاقتداء بأئمة المذاهب الذين كانوا يقولون:"إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ، فَهُوَ مَذْهَبِي"(١).
والأَخْطَرُ من ذَلكَ أن نجدَ من المسلمين مَنْ يتعصَّب لإمامه في بعض الفروع، أو يتعصب له في مسائلَ ضعيفةٍ، ثم إذا به يترك الأخذَ برأيه في أمور العقيدة التي هي أساس هذه الشريعة ولُبُّهَا، والأصل أن يُعْنَى الإنسان أَوَّلًا بأمر العقيدة، حتى إذا ثَبَتَتْ في قلبه واستَقَرَّتْ، فَحِينَئذٍ له أن يُفَرِّعَ علَيها، ولذَلكَ أمْضَى الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- في مكَّة ثلاثةَ عَشَرَ عامًا، وهُوَ يُعْنَى بأمر العقيدة، لم يَكلَّ ولم يَملَّ حتى أرساها وَثبَّتَها، ثم لَمَّا انتَقَلَ إلى المدينة، زادت العناية بالأحكام لَمَّا بدأَت هذه الأحكام تزداد كثوةً.
ونخلص من هذا كله إلى أهمية الاهتمام بدراسة الفقه دراسةً مقارَنةً وافيةً، وهذه الدراسة لها مَيْزَةٌ تنفرد بها عن دراسة المذهب الواحد، وهي الوقوف على آراء باقي أصحاب المذاهب، ومعرفة دليل كلٍّ منهم، ولا شكَّ أن الدارس حِينَئذٍ قَدْ يجد في تلك المذاهب ما لَنْ يجده في دراسة المذهب الواحد، فالذي يدرس مذهبًا بعينِهِ من المَذَاهب إنَّما يَدُورُ في فَلَك ذلك المذهب لا يخرج عنه.
(١) هو قول الإمام الشافعي، أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (٢/ ٤٥٤) بلفظ: "إذا صح عندكم الحديث، فقولوا لنا حتى نذهب إليه".