للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يشركون أيضًا، كيف يُنكر علينا عبادتنا وهو يدعو إلهين؟ فأنزل اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: ١١٠] (١).

والشاهد هنا: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}؛ أي: عَظِّمه تعظيمًا، فهو أكبر من كل شيء، لا أكبر من اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! وإذا كان كذلك فينبغي أن تَحمده في كل الأحوال في حَالَتَي السَّراء والضراء؛ فـ "عجبًا لأمر المؤمن كله خير؛ إن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرًا له، وإن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرًا له" (٢).

وهكذا رأينا جهابذة (٣) العلماء الذين مَرُّوا بمواقف صعبة؛ وأُوذوا في سبيل اللَّه، وظُلموا وطُردوا، وأُلقيت السلاسل في أيديهم، وغُلت أعناقهم، وألقوا في غيابات (٤) السجن فصبروا، كما حصل للإمام أحمد؛ لقوله: "إن (القرآن الكريم) كلام اللَّه، مُنَزَّلٌ غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود".

فقد كانوا يريدونه أن يقول بخلق القرآن، وحاشاه أن يقول ذلك، وصبر على ذلك، واحتسب في سبيل اللَّه، وتوالى عدد من الولاة وهو يُعَذَّب، ثم جاء الوالي الرابع فأخرجه وأكرمه وعرض عليه جميعَ زخارف (٥) الدنيا، فأعرض عنها؛ لأنه أدرك أنه قد ابتُلي بالضراء فصبر، وهذه السراء فامتنع عنها.


(١) أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" (١/ ٨٢)، عَنْ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ البَيْتِ، فَجَهَرَ بِالدُّعَاءِ، فَجَعَلَ يَقولُ: "يَا اللَّهُ، يا رَحْمَنُ"، فَسَمِعَتْهُ أَهْلُ مَكَّةَ، فأَقْبَلُوا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، إِلَى آخِرِ الآيَةِ".
(٢) أخرجه مسلم (٢٩٩٩)، عن صهيب، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شَكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له".
(٣) الجهبذ بالكسر: النَّقاد الخبير بغوامض الأمور، البارع العارف بطرق النقد، والجمع: الجهابذة. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (٩/ ٣٩٢).
(٤) غيابة الجب بالفتح: قَعره. والجمع: غيابات. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (٢/ ٤٥٨).
(٥) الزخارف: الزينة. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (٣/ ٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>