الخلفاء، فوقف في وجه المبتدعين، وناصر أهل الحق؛ أصحاب العقيدة الطاهرة النقية، نصرهم على أعدائهم، ومكّنهم، ومع ذلك وجدنا أن أولئك وقفوا محتسبين.
أولئك العلماء -كما هو معلومٌ- ابتُلوا بالضراء فصبروا، أُنزلت بهم أنواع العذاب فما تراجعوا، ثم بعد ذلك فُتحت عليهم الدنيا، فلم تخدعهم الدنيا ولم تجذبهم شهواتها، والشيطان قد يعجز عنك أيها المؤمن عن أن يشغلك عن طريق إيمانك، لا يستطيع أن يستغلك عن طريق ضراء نزلت بك؛ لأنَّ المؤمن إذا نزلت به ضراء فقال:({إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ})[البقرة: ١٥٦]، وربما لا يستطيع أن يستغلك عن طريق السراء؛ لأنك ستشكر المُنعم، وهو اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتحمده على هذه النعم التي تأتيك تترى، لكنه يأتيك من طريقٍ خفيٍّ، ما دمت وقفت تلك المواقف العظيمة، وما دمتَ قد انتصرت فيها، وما دام غيرك قد ضعف، فإنه يبدأ في بثِّ العجب في نفس الإنسان، والإنسان ضعيف، فربما ينفُذ من هذا المنفذ الخفيِّ، فيبدأ الغرورُ يتردَّد في نفس الإنسان، فيأخذه العجب، وربما الكبرياء، فيبدأ ينازع اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ردائه.
الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ لم تثنه الضراء عما كان عليه، ولم تصرفه السراء بعد أن زالت عنه الغُمة، ولم يرَ العجب في نفسه، بل كان رَحِمَهُ اللَّهُ يحمل على رأسه، ويشتغل ويعمل بنفسه؛ ليأكل من قوت يده، ولكنه لم ينصرف إلى زهرةِ الدنيا، وليس معنى هذا الكلام أنَّ الإنسان يزهد في الدنيا، يريد أنه يغفل عنها، لا، ولكن قصدنا من هذا أنه لا ينبغي للإنسان أن ينصرف إلى الدنيا وينسى الآخرة، ({وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩)}) [الإسراء: ١٩]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}[الإسراء: ١٨]؛ فرِزق الإنسان في هذه الحياة سيأخذه ويتحصل عليه، لكن على المؤمن دائمًا أن يتوكل على اللَّه، كما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَو أنكُم توكلْتُم علَى اللَّهِ حقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تغدُو خِمَاصًا وتَروحُ بِطَانًا" مسند أحمد.