للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد رجع أبو يوسف؛ لأن مالكًا ناظره بأمرٍ مشهود مُسلّم به، هذا هو صاع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يزال يُعمل به، فما كان لأبي يوسف إلا أن يرجع، وهكذا شأن العلماء العاملين، لم يقف أبو يوسف عند رأي أبي حنيفة ويقول: هذا رأيي ورأي صاحبي أبي حنيفة، رأى أنَّ الحق مع الإمام مالك فرجع إلى قوله، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: ٥١]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: ٣٦]، فمتى ما تبين للمؤمن الحق فإنه يجب عليه أن يرجع إلى الحق.

ولذلك في الكتاب العظيم الذي كتبه عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- إلى أبي موسى عندما ولّاه القضاء: "لا يمنع أن تقضي قضاءًا ليوم، فيتبيّن لك الحق في خلافه أن ترجع إلى الحق" (١).

فعمر -رضي اللَّه عنه- يحثه على ذلك، وهذا هو منهج الشريعة الإسلامية. إذًا إذا


= علينا أبو يوسف من الحج، فأتيناه، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابًا من العلم همني، تفحصت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع، فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ فقالوا: نأتيك بالحجة غدًا، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار، مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه أو أهل بيته أن هذا صاع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فنظرت فإذا هي سواء، قال: فعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير، فرأيت أمرًا قويًّا، فقد تركت قول أبي حنيفة في الصاع، وأخذت بقول أهل المدينة. قال الحسين: فحججت من عامي ذلك فلقيت مالك بن أنس، فسألته عن الصاع، فقال: صاعنا هذا صاع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقلت: كم رطلًا هو؟ قال: إن المكيال لا يرطل، هو هذا. قال الحسين: فلقيت عبد اللَّه بن زيد بن أسلم، فقال: حدثني أبي عن جدي أن هذا صاع عمر -رضي اللَّه عنه-".
(١) يُنظر: "سنن الدارقطني" (٥/ ٣٦٧)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (١٠/ ٢٥٣) حيث قال: "ولا يمنعك من قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه لرأيك، وهديت فيه لرشدك، أن تراجع الحق؛ لأن الحق قديم، لا يبطل الحق شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".

<<  <  ج: ص:  >  >>