للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالإمام مالك يعتبر المصالح وإن لم يعتمد على أصول يستند عليها.

بعبارة أخرى: كأن المؤلف يقول: الإمام مالك توسع في المصالح المرسلة أكثر من غيرها، فهناك من أخذ بالمصالح المرسلة لكنهم قيدوها بقيود، والمالكية توسعوا فيها ما دام لم يرد نص واضح يتعارض معها، فهو يرى أن المالكية في هذا المقام وفي غيره توسعوا فتوسُّعهم هذا أوقعهم في بعض الأخطاء، ومنها هذا المأخذ الذي أخذه المؤلف عليه. وبهذا يتبين أن المؤلف مع الجمهور في هذه المسألة.

ورأي المؤلف هو الصواب في هذا وإن لم يصرح بأنه مع الجمهور، لكن نقده لمذهب المالكية دليلٌ على أنه يأخذ بخلافه، وهو كما تعلمون ما سلك مسلك الترجيح إلا في أوائل مسالك الكتاب، وإنما أراد أن يترك ذلك لطالب العلم؛ لأن طالب العلم إذا جاء إلى كتاب فوجد أن كل مسألة فيه مرجحة، تعود على هذا وكسِل في هذا الأمر وبرد ذهنه وفترت عزائمه لأنه وجد غيره خدمًا، لكن إذا لم يجد الترجيح فإنه سيأخذ بأسباب الخلاف، وما يرد عليه من اعتراض ومناقشات ثم ينتهي بعد ذلك إلى ما يظهر له من الحق.

إذن؛ المؤلف أعمل فكره وذهنه وجمع حواسَّه ودقق في دراسة المسائل فوصل إلى نتائج، وهذا هو تحريك الذهن، فالإنسان -كما أشرنا قبل قليل- إذا عود نفسه على أن يقرأ في مسائل دقيقة ويتمرس (١) فيها تصبح سهلة عليه إذا مر بما يشبهها، لكن إذا عودت نفسي على أنني أقرأ الأمور البسيطة وإذا وجدت مسائل تحتاج مني إلى وقفات، وإلى إمعان نظر، وإلى دقة، والى رجوع، وقد تحتاج إلى أن أرجع إلى كتب اللغة، وإلى كتب الأصول، وإلى غير ذلك؛ يحجم الإنسان عن هذه المسائل، لكن هذه المسألة إذا عودت نفسك عليها تمرست فيها، وهذا هو الحال


(١) التمرس شدة الالتواء والعلوق وتمرس بالشيء ضربه. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم"، لابن سيده (٨/ ٤٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>