الأم العطوف الحنون إلا أن انطلقت إلى أقرب موضعٍ لها وهو الصفا، فصعدت عليه، فلم تجد أحدًا يسعفها في هذا المقام بشيءٍ، ثمَّ نزلت من هذا المكان، فإذا مَا مرَّت ببطن الوادي الذي هو مكان السعي الآن، أسرعت؛ لأنها عندما تنزل لا ترى ابنها فلذة كبدها، فَتُسْرع، ثمَّ تذهب إلى المروة، وتفعل وتتحسس، وتمضي الأشواط السبعة حتى إذا كانت في آخر شوطٍ منها وهي على المروة، سمعت صوتًا، فأخذت تخاطب نفسها وتقول: صه وصه، كأنها تقول لنفسها: اسكتي، وإذا به جبريل -عليه السلام-، يَنْزل فيضرب بعقبه أو بجناحه الأرض، فيخرج ماء زمزم، فتأتي إليه، فيَنْشرح صَدْرها، ويَطْمئن فؤادها، وتعود إليها البهجة، وأَخذتْ تجمع هذا الماء خشية أن ينتهي، ثم يُبشِّىرها بأن اللَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لن يضيعهما في هذا المقام، وأن هذا الابن سيكون مع والده يبنيان بيت اللَّه في هذا المقام، وتمضي الأيام، ويبدأ هذا الطفل الرضيع يشب عن الطوق، ويكبر شيئًا فشيئًا، وتأتي جماعةٌ من قبيلة جرهم، فَيَرون الطيورَ تُحلِّق حول الماء، فاستغربوا ذلك؛ لأنَّ هذه أرضٌ مقفرةٌ، ليس فيها نباتٌ، ولا ماءٌ، فكيفَ تُحلِّق هذه الطُّيور في هذا المكان؟ فما كان منهم إلا أن جاء بعضهم ليتأكد، فَوَجدوا الماء، فنزلوا عندها، وتمرُّ الأيام، ويَكْبر إسماعيل -عليه السلام-، ويتزوج من هذه القبيلة، ويأتي والدُهُ بعد فترة بعد أن تزوج ولا يجده في مكانه، ويسأل عنه، ويجد امرأته فيسألها عن حالهما، فتقول: نحن في كربٍ، وفي شدةٍ، وفي ضيقٍ، ثم يحملها رسالةً لتبلغها زوجها، فيأتي إسماعيل من الصيد، فيسألها: أجاء أحدٌ؟ فقالت: جاء رجلٌ وَصْفه كذا وكذا، قال: وهل أبلغكِ شيئًا أو حمَّلكِ أمانةً؟ قالت: نعم، فذكرت أنه سألها عن حالتهم، فذكرت له، فقالت: أوصاني بأن أقول لك: غَيِّر عتبة بابك، فقال: أنتِ عتبة بابي، فطلَّقها، ثم تزوَّج أُخرى وبعد فترةٍ من الزمن يعود ولا يجد ابنه، وَيَجد تلكم المرأة الطيبة الصالحة، فيسألها عن حَالِهِما، فتقول: نحن في خيرٍ، وفي نعمةٍ، وفي سعادةٍ، وتصف له من الأوصاف الكثيرة، فيسألها: وما طعامكما؟ قالت: الماء واللحم؟ لأنه لا يوجد نبت في هذا المكان، إنما هي طيورٌ تُصَاد؛ حيوان أو ماء يُشْرب، فذكرت لَه