للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

"إني لأعلم أنك حجرٌ لا تنفع ولا تضر، ولولا أنِّي رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقبِّلك، ما قبَّلتك" (١)، وَيَقف خلف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يُقبِّل الحجر ودموعه -صلى اللَّه عليه وسلم- تَذْرف وتسيل من عينيه، وهو كذلك يبكي وراءه (٢)، إنَّ ذلك دليل رقَّة القلب والخشوع والاستجابة والإخلاص الذي استقرَّ في هذه القلوب، فأنار لها طريق الخير والرشاد.

وهَذَا يُذكِّرنا بقصة أُمِّ إسماعيل (٣) عندما أتَى بها إبراهيم أبو الأنبياء، فَوَضعها في هذا المكان القحل الذي لا ماء فيه، ولا مرعى، ولا إنس، ليسَ معهما إلا سقاءٌ فيه ماءٌ، وجرابٌ فيه شيء من التمر، ثم يرجع ويتركهما في هذا المكان الموحش، ثم إنَّ هاجر تسير خلف إبراهيم تسأله: لمَنْ تتركنا؟ فلا يرد عليها ثلاث مرات، ثم تسير وراءه، فلما لم يردَّ عليها في بعض الروايات قالت: اللَّه أَمَرك بذلك؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. . لا يُضيِّعنا ما دام هذا بأمرٍ من اللَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وبتوجيهٍ منه، وهو الذي هداك إلى هذا الطريق، وأرشدك أن تحملنا، وتأتي بنا، فتضعنا في هذا المكان، وهذا ما حصل حقًّا؛ لأن اللَّه تَعالَى لا يضيع أولياءه، ولا يغفل عنهم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)} [النحل: ١٢٨]، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١)} [غافر: ٥١]، ثم تعود المرأة وتظل تشرب من هذا الماء، وتأكل من هذه التمرات، وتُرْضع ولدها من ثديها، وتمضي الأيام وهي ليست بكَثِيرةٍ، وينتهي الماء، وكذلك التمر، فماذا تفعل بعدما أصبحت ترى ابنها يَتَلوَّى؛ لأن ثَدْيها قد جفَّ، فلا يوجد فيه لبنٌ كي ترضعه، هذه الأم التي نسيت نفسها، لا يهمها أن تموت إنما تفكر في حالة هذا الطفل الرضيع الذي أصبح يتلوَّى ويضربها من شدة الجوع، فما كان منها وهي


(١) أخرجه البخاري (١٥٩٧)، عن عابس بن ربيعة، عن عمر -رضي اللَّه عنه-: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقَبَّله، فقال: "إني أعلم أنك حجر، لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقبِّلك ما قبَّلتك".
(٢) تقدَّم تخريجه.
(٣) أخرجها البخاري (٣٣٦٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>