للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نأتي إلى الأفعال التي يفعلها الحاج في يوم عرفة، وَعَلى هذه الساحة العظيمة، وهذه الأرض المنبسطة التي جعلها اللَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مشعرًا من مشاعر الإسلام، وجعل الحج الأكبر فيها، فالمسلمون الذين جاؤوا لأداء هذا النسك إنما يجتمعون كلهم على صعيد عرفة، فانظر إلى هذه الأجناس المختلفة، وهذه الألوان، لو أن الانسان أنفق مالًا كثيرًا، وبذل ذوب قلبه، وغاية جهده، وضرب الأرض شرقًا وغربًا، لَمَا استطاع أن يظفرَ بهذا العدد، وقَدْ جاؤوا راغبين مقبلين؛ لأنهم أَجَابوا دعاء اللَّه؛ دعاء إبراهيم -عليه السلام-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)} [الحج: ٢٧]، فَنَجد أن أرض عرفات تموج بهذا الجمع الغفير من المؤمنين، وكُلُّهمْ جاؤوا طاعةً للَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، جاؤوا تَارِكِين وراءهم كُلَّ ما يَشْغلهم من هَذِهِ الحياة الدنيا، فَمَا أوقفتهم تجارةٌ، ولا بنون، ولا زوجاتٌ، ولا آباءٌ، ولا إخوانٌ، ولا أصدقاءٌ، كل ذلك نَسَوه أو تَناسَوه، وجاؤوا إلى هذا المكان مطيعين لربهم، منيبين إليه، وفي هذا المقام تُسْكب العبرات، وتسيل الدموع على الوجنات؛ لذلك نجد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "خَيْر الدُّعاء دعاء عرفة، وأفضل ما قلتُهُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا اللَّه وَحْده لا شريكَ له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير" (١).

إنَّ اللَّه تعالى في ذلك الموقف العظيم يباهي بذاك الجمع الكبير العظيم ملائكته، فيقول: "انظُرُوا إلى عبَادي، أَتَوْنِي شعثًا غبرًا، أشْهدكُمْ أني قد غفرت لهم" (٢)، فلا بدَّ أن نستغلَّ ذلكم الموقف، وأن نتَّجه فيه


(١) أخرجه الترمذي (٣٥٨٥)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة" (٢٥٩٨).
(٢) أخرجه ابن حبان (٣٨٥٣)، عن أبي الزبير عن جابرٍ، قال: قال رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من أيامٍ أفضل عند اللَّه من أيام عشر ذي الحجة"، قال: فقال رجل: يا رسول اللَّه، هن أفضل أم عدتهن جهادًا في سبيل اللَّه؟ قال: "هُنَّ أفضل من عدتهن جهادًا في سبيل اللَّه، وما من يوم أفضل عند اللَّه من يوم عرفة، ينزل اللَّه إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض اهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا ضاحين، جاؤوا من كل فجٍّ عميقٍ يرجون رحمتي، ولم يَرَوا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة"، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "الضعيفة" (٦٧٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>