للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنَّ من أخبره أكثر علمًا منه، لكن هذا دليل على أنَّ العالم مهما بلغ القمة من العلم، ومهما كان عنده من الفضل، فإنَّه يصعب حقيقة أن يحيط بجميع العلم، والله تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٨٥]، ولذلك ذكر أبو هريرة - رضي الله عنه - لما سئل لم كان يحفظ أحاديث رسول الله أكثر من غيره، مع أنَّه لم يكن من المتقدمين في الإسلام، بيَّنَ أنَّه لما كان الناس مشتغلين بالصفق (١) في الأسواق، كان هو مقيم ملازم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (٢)، والإنسان ربما إذا لازم الشيخ، أو جلس عنده سنوات قد يجمع ما لم يجمعه غيره في عشرين سنة.

ومنه فلا نستطيع أنَّ نقول بأنَّ المذهب الفلاني هو الصحيح، ولكننا نقول بأنَّ الأئمة رحمهم الله ما تركوا سبيلًا ولا طريقًا من الطرق التي توعملهم إلى معرفة كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا سلكوه، وقد بذلوا الجهد في استنباط الأحكام، وتخريج المسائل، وقد بذلوا الجهد، وضحوا بالنفس والنفيس في سبيل تحقيق ذلك، بل وأفنوا أعمارهم في خدمة هذا الدين، هذا أمرٌ لا يُشك فيه.

ولكن ينبغي أن نراعي ما بينهم من فروق ودرجات، فهذا قد يحفظ ما لم يحفظه الآخر، وقد يبلغ أحدهم دليل ولا يبلغ الثاني، وقد يبلغ الجميع الدليل ويختلفون في توجيهه وفهمه، وخير دليل على ذلك قصة النفر الثلاثة الذين ذكرناهم قبل قليل - أبو حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة - وكيف اختلفوا في مسألة واحدة، تعجب السائل من ذلك، لكن رأينا أنَّ كل واحد منهم يتمسك بدليل.

أمَّا القول بأنَّ مذهب مالك أولى المذاهب في مسألة أو مسائل، فإن


(١) الصفق: أي البيع. تقول: صَفَقْتُ لَهُ بالْبَيْعَةِ صَفْقًا، أَيْضًا ضَرَبْتُ بِيَدِي عَلَى يَدِهِ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا وَجَبَ الْبَيْعُ ضَرَبَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ الصَّفْقَةُ فِي الْعَقْدِ، فَقِيلَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ. يُنظر: "المصباح المنير"؛ للفيومي (١/ ٣٤٣).
(٢) أخرجه البخاري (١١٨)، ومسلم (٢٤٩٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>