الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فمنذ أن فتح العرب بلاد الأندلس عام ٩٢ للهجرة نجد أن تلك الأصقاق قد شهدت نزوح كثير من القبائل العربية إليها حيث ألقت هناك عصا الترحال واستقرّ بها النّوى، ومكّنها ذلك فيما بعد من إحداث نهضة أدبية سرعان ما نمت وتطوّرت وعرفت في عصر الدولة الأموية التي أنشئت هناك على أنقاض الدولة الأموية التي انهارت في المشرق العربى تحت ضربات العباسيين، أوج ازدهارها، وقمّة عطائها، وقد ظهر في تلك الديار النائية التي لم تفقد في يوم من الأيام صلتها بالمشرق الأم، كثير من العلماء والأدباء الذين حاكوا بنتاجهم أكثر من ظهر في المشرق العربي من نتاج، والتزموا بأذواقهم الذوق الأدبي اسائد آنذاك، حتى أنّ الصاحب بن عباد بعد اطلاعه على «العقد الفريد» نراه يقول: «هذه بضاعتنا ردّت إلينا» ، ومن هؤلاء الأدباء الكثر، صاحب العقد أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم القرطبي، الذي كان مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان.
ولد الرجل في مدينة قرطبة في العاشر من شهر رمضان سنة ٢٤٦ هـ- الموافق للتاسع والعشرين من تشريع الثاني سنة ٨٦٠ م. وقرطبة حيث ولد ابن عبد ربّه من أعظم المدن الأندلسيّة، وكانت عظيمة الشبه بمدينة بغداد حاضرة العباسيين، وعنها يقول المقّري صاحب نفح الطيب: «يحكى أنّ العمارة في مباني قرطبة والزاهرة والزهراء اتصلت إلى أنه كان يمشى فيها بضوء لمن قطف بيده ما يمنحونه منه، ونهرها