للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقد نبّئت أنك تتحرّى فيه. قال: يا أمير المؤمنين، لنا مال يخرج لنا منه فضل، فإذا كان ما خرج قليلا أنفقناه على قلّته، وإن كان كثيرا فكذلك، غير أنا لا ندّخر منه شيئا عن معسر ولا طالب ولا مستحمل، ولا نستأثر منه بفلذة لحم ولا مزعة «١» شحم. قال: فكم يدوم لك هذا؟ قال: من السّنة نصفها. قال: فما تصنع في باقيها؟

قال: نجد من يسلفنا ويسارع إلى معاملتنا. قال: ما أحد أحوج إلى أن يصلح من شأنه منك. قال: إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين، ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذه الحال. فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم، وقال: اشتر بها ضيعة تعينك على مروأتك. فقال سعيد: بل أشترى بها حمدا وذكرا باقيا. أطعم بها الجائع، وأزوج بها الأيّم، وأفكّ بها العاني «٢» ، وأواسي بها الصديق، ما وأصلح بها حال الجار فلم تأت عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم. فقال معاوية: ما فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف من الجود، وحسبك أن الله تبارك وتعالى جعل الجود أحد صفاته.

ومن جوده أيضا ما حكاه الأصمعي، قال: كان سعيد بن العاص يسمر معه سماره إلى أن ينقضي حين من الليل، فانصرف عنه القوم ليلة ورجل قاعد لم يقم، فأمر سعيد بإطفاء الشمعة وقال: حاجتك يافتى؟ فذكر أنّ عليه دينا أربعة آلاف درهم.

فأمر له بها، وكان إطفاؤه للشمعة أكثر من عطائه.

[جود عبيد الله بن أبي بكرة]

ومن جود عبيد الله بن أبي بكرة أنه أدلى إليه رجل بحرمة، فأمر له بمائة ألف درهم، فقال: أصلحك الله، ما وصلني أحد بمثلها قط، ولقد قطعت لساني عن شكر غيرك، وما رأيت الدنيا في يد أحد أحسن منها في يدك، ولولا أنت لم تبق لها بهجة إلا أظلمت، ولا نور إلا انطمس.