وأماتت بحبها قلوبكم، استوحش منكم، فكنت إذا نظرت إليه حسبته حيا وسط أموات؛ يا داود، ما أعجب شأنك بين أهل زمانك، أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها، وأتعبتها وإنما تريد راحتها وأخشنت المطعم وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه، ثم أمتّ نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذّبتها قبل أن تعذب؛ سجنت نفسك في بيتك فلا محدّث لك، ولا جليس معك، ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قلّة يبرّد فيها ماؤك، ولا صحفة يكون فيها غداؤك وعشاؤك؛ يا داود، ما تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيّبه، ولا من اللباس لينه؛ بلى، ولكن زهدت فيه لما بين يديك؛ فما أصغر ما بذلت وما أحقر ما تركت في جنب ما رغبت وأمّلت، فلما مت شهرك ربّك بفضلك؛ وألبسك رداء عملك، فلو رأيت من حضرك علمت أن ربك قد أكرمك وشرّفك.
[للاحنف على قبر أخيه:]
وقف الأحنف بن قيس على قبر أخيه فأنشد:
فو الله لا أنسى قتيلا رزئته ... بجانب قوسى ما مشيت على الأرض «١»
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي
ووقف محمد بن الحنفية على قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما فخنقته العبرة ثم نطق فقال: يرحمك الله أبا محمد، فلئن عزّت حياتك فلقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا يكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء «٢» ، غذتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حيّا وطبت ميتا، وإن كانت أنفسنا غير طيّبة بفراقك، ولا شاكّة في الخيار لك.