خطبهم أبو حمزة الشاري بمكة، فصعد المنبر متوكئا على قوس عربية، فخطب خطبة طويلة، ثم قال:
يأهل مكة، تعيّرونني بأصحابي، تزعمون أنهم شباب، وهل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا شبابا؟ نعم الشباب مكتهلين، عمية عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم، قد نظر الله إليهم في آناء الليل منثنية أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مرّ أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، قد وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم، أنضاء عبادة، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من كثرة الصيام وطول القيام، مستقلون لذلك في جنب الله، موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، [حتى] إذا رأوا سهام العدوّ قد فوّقت «١» ، ورماحهم قد أشرعت، وسيوفهم قد انتضيت، وبرقت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت- استهانوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، فمضى لشاب منهم قدما حتى تختلف رجلاه على عنق فرسه، قد رمّلت «٢» محاسن وجهه الدماء، وعفّر جبينه بالثرى، وأسرع إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير سماء؛ فكم من مقلة في منقار طائر، طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم من كف بانت رقيق، قد فلق بعمد الحديد! رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان.
ثم قال: الناس منا ونحن منهم، إلا عابد وثن، أو كفرة أهل الكتاب، وإماما جائرا، أو شادّا على عضده.
[وخطبة أبي حمزة بالمدينة]
قال مالك بن أنس رحمه الله: خطبنا أبو حمزة خطبة شك فيها المستبصر وردّت المرتاب، قال: