للمناخر، وأعانت عليهم ريب المنون، وعقرتهم بالمصائب؛ وقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها، حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر الأمد. هل زوّدتهم إلا الشقاء، وأحلّتهم إلا الضنك، أو نوّرت لهم إلا الظلمة، وأعقبتهم إلا الندامة؟
أفهذه تؤثرون، أم عليها تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله تبارك وتعالى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
«١» ؛ فبئست الدار لمن لم يتّهمها، ولم يكن فيها على وجل منها؛ اعملوا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بدّ؛ فإنما هي كما نعت الله عز وجل: لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ
«٢» . فاتّعظوا فيها بالذين يبنون بكل ريع آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، وبالذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً
«٣» ؛ واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا [الأجداث] فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الضريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرّفات جيران؛ فهم جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، إن أخصبوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا، جمع وهم آحاد، جيرة وهم أبعاد، متناءون وهم يزارون ولا يزورون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، وهم كمن لم يكن، قال الله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ
«٤» استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالآل غربة، وبالنور ظلمة، فجاءوها حفاة عراة فرادى، غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة إلى خلود الأبد يقول الله تبارك وتعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
«٥» ، فاحذروا ما حذركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإياكم