قام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي فقال له: إنه لما سهل علينا ما توعّر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي [عند] انقطاع عذر الكتمان، ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحقّ على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص «١» . وقد جاء في الأثر: من حجب الله عنه العلم عذّبه على الجهل؛ وأشد منه عذابا من أقبل إليه العلم فأدبر عنه. فاقبل يا أمير المؤمنين ما أهدى إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل، لا قبول سمعة ورياء؛ فإنما هو تنبيه من غفلة، وتذكير من سهو وقد وطّن الله عز وجل نبيه على نزولهما، فقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
«٢» .
مقام رجل من العبّاد عند المنصور
بينما المنصور في الطواف ليلا إذ سمع قائلا يقول اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور، فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه فصلى الرجل ركعتين، واستلم الركن، وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة.
فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الأرض، وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني «٣» .
فقال: إن أمّنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجرت منك واقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل.