أكديتم «١» ، وسبق إذ ونيتم، سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشئا، وكهفها «٢» كهلا، يفك عانيها، ويريش مملقها، ويرأب صدعها ويلمّ شعثها، فما برحت شكيمته في ذات الله تشتد، حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان وقيد الجوانح غزير الدمعة، شجيّ النشيج، وأصفقت «٣» إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزؤن به، والله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون، فأكبرت ذلك رجالات قريش فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا قناة؛ حتى ضرب الحقّ بجرانه، وألقى بركه «٤» ، ورست أوتاده. فلما قبض الله نبيّه ضرب الشيطان رواقه، ومدّ طنبه؛ ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله؛ فقام الصّديق حاسرا مشمّرا، فردّ نشر الإسلام على غرّه وأقام أوده بثقافه، فابذعرّ «٥» النفاق بوطئه، وانتاش «٦» الناس بعدله، حتى أراح الحقّ على أهله، وحقن الدماء في أهبها؛ ثم أتته منيته؛ فسدّ ثلمته نظيره في المرحمة، وشقيقه في المعدلة؛ ذلك ابن الخطاب، لله درّ أم حفلت له ودرّت عليه! ففتح الفتوح، وشرّد الشرك، وبعج «٧» الأرض فقاءت أكلها، ولفظت جناها، ترأمه ويأباها، وتريده ويصدف عنها، ثم تركها كما صحبها؛ فأروني ما ترتابون؟ وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه]
الليث بن سعد عن الزهري قال: أهدي لأبي بكر طعام وعنده الحرث بن كلدة، فأكلا منه؛ فقال الحرث: أكلنا سمّ سنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحول! فماتا جميعا في يوم واحد عند انقضاء السنة، وإنما سمّته يهود كما سمت النبي صلّى الله عليه وسلم بخيبر في ذراع الشاة؛ فلما حضرت النبي صلّى الله عليه وسلم الوفاة قال: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى