العتبي قال: دخل جامع المحاربي على الحجاج- وكان جامع شيخا صالحا خطيبا لبيبا جريئا على السلطان وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط بنيتها في غير بلدك، وتورثها غير ولدك- فجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم. فقال له جامع: أما إنه لو أحبّوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك، ولا لبلدك، ولا لذات نفسك؛ فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقرّبهم إليك، والتمس العافية ممن دونك، تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. قال الحجاج: ما أرى أن أردّ بني الّلكيعة «١» إلى طاعتي إلا بالسيف. قال: أيها الأمير، إنّ السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار. قال الحجاج:
الخيار يومئذ لله. قال: أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله الله. فغضب وقال: يا هناه «٢» ، إنك من محارب. فقال جامع:
وللحرب سمّينا وكنّا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطّعن أحمرا
فقال الحجاج: والله لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك. قال جامع:
إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله. قال: أجل، وسكن. وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع، فمرّ بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق، فأبصر كبكبة «٣» فيها جماعة من بكر العراق، وقيس العراق. وتميم العراق، وأزد العراق؛ فلما رأوه اشرأبّوا «٤» إليه وقالوا له: ما عندك دفع الله عنك؟ قال: ويحكم! عمّوه بالخلع كما يعمكم بالعداوة، ودعوا التعادي ما عاداكم؛ فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم. أيها التميمي، هو أعدي لك من الأزديّ، أيها القيسيّ هو أعدى لك من التّغلبيّ. وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم.
وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، واستجار بزفر بن الحارث فأجاره.