وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وستمائة ألف وستة وسبعين ألفا، إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورياشهم والدقيق والجليل من مواهبهم، فإنه لا يوصف أقلّه، ولا يعرف أيسره إلا من أحصى الأعمال وعرف منتهى الآجال.
وأبرزت حرمه إلى دار البانوقة ابنة المهدي؛ فو الله ما علمته عاش ولا عشن إلا من صدقات من لم يزل متصدقا عليه؛ وما رأوا مثل موجدة الرشيد فيما يعلم من ملك قبله على أحد ملكه.
[بين أم جعفر والرشيد:]
وكانت أم جعفر بن يحيى، وهي فاطمة ابنة محمد بن الحسين بن قحطبة، أرضعت الرشيد مع جعفر؛ لأنه كان ربّي في حجرها وغذي برسلها «١» ، لأن أمه ماتت عن مهده، فكان الرشيد يشاورها مظهرا لإكرامها والتبرّك برأيها، وكان آلى وهو في كفالتها أن لا يحجبها، ولا استشفعته لأحد إلا شفعها، وآلت عليه أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا لها، ولا شفعت لأحد لغرض دنيا. قال سهل: فكم أسير فكّت، ومبهم عنده فتحت، ومستغلق منه فرّجت. واحتجب الرشيد بعد قدومه، فطلبت الإذن عليه من دار الباقونة، ومتّت بوسائلها إليه؛ فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها؛ فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها محتفية في مشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد؛ فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب، فقال: ظئر «٢» أمير المؤمنين بالباب، في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى شفقة أم الواحد! فقال الرشيد:
ويحك يا عبد الملك! أو ساعية؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين حافية! قال أدخلها يا عبد الملك، فربّ كبد غذتها، وكربة فرجتها، وعورة سترتها! قال سهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلبتها، وإسعافها بحاجتها. فدخلت، فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية، قام محتفيا حتى تلقّاها بين عمد المجلس، وأكب على تقبيل رأسها ومواضع