قدم محمد بن عمير بن عطارد في نيف وسبعين راكبا، فاستزارهم عمرو بن عتبة، قال: فسمعته يقول: يا أبا سفيان، ما بال العرب تطيل كلامها وأنتم تقصرونه معاشر قريش؟ فقال عمرو بن عتبة: بالجندل يرمى الجندل، وإن كلامنا كلام يقل لفظه ويكثر معناه، ويكتفي بأولاه ويستشفى بأخراه، يتحدر تحدر الزلال على الكبد الحرّى، ولقد نقصوا وأطال غيرهم فما أخلّوا، ولله أقوام أدركتهم كأنما خلقوا لتحسين ما قبّحت الدنيا، سهلت ألفاظهم كما سهلت عليهم أنفاسهم، فابتذلوا أموالهم، وصانوا أعراضهم، حتى ما يجد الطاعن فيهم مطعنا، ولا المادح مزيدا، ولقد كان آل أبي سفيان مع قلتهم كثيرا منه نصيبهم، ولله در مولاهم حيث يقول:
وضع الدهر فيهم شفرتيه ... فمضى سالما وأمسوا شعوبا
شفرتان والله أفنتا أبدانهم، وأبقتا أخبارهم، فتركناهم حديثا حسنا في الدنيا، ثوابه في الآخرة أحسن، وحديثا سيئا في الدنيا، ثوابه في الآخرة أسوأ، فيا موعوظا بمن قبله موعوظا به من بعده، اربح نفسك إذا خسرها غيرك.
قال: فظننت أنه إن أراد أن يعلمه أن قريشا إذا شاءت أن تتكلم تكلمت.
[ابن عتبة وقرشيون تشاحوا:]
العتبي قال: شهدت مجلس عمرو بن عتبة وفيه ناس من القرشيين، فتشاحّوا في مواريث وتجاحدوا، فلما قاموا من عنده أقبل علينا فقال: إنّ لقريش درجا تزلق عنها أقدام الرجال، وأفعالا تخضع لها رقاب الأقوال، وغايات تقصر عنها الجياد المنسوبة، وألسنة تكلّ عنها الشفار المشحوذة؛ ولو احتفلت الدنيا ما تزيّنت إلا بهم، ولو كانت لهم ضاقت عن سعة أخلاقهم؛ وإنّ قوما منهم تخلقوا بأخلاق العوام فصار لهم رفق باللؤم، وخرق في الحرص ولو أمكنهم لقاسموا الطير في أرزاقها؛ إن خافوا مكروها