لهم، فإنهم استوحشوه من أنفسهم، وإني عنده بالموضع الذي لا يكتمني شيئا من أمرهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تنقلني من السّعة إلى الضيق! فقال الرشيد: إلا أن تقول؛ فإني لا أتهمك في نصيحة ولا أخافك على رأي ولا مشورة! فقلت: يا أمير المؤمنين، إني أرى نفاستك عليهم بما صاروا إليه من النعمة والسّعة، ولك أن تأمر وتنهى، وهم عبيد لك بإنباتك إياهم؛ فهل ذلك كلّه إلا بك؟ - قال: وكنت أحطب في حبال البرامكة- فقال لي: فضياعهم ليس لولدي مثلها وتطيب نفسي بذلك لهم! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الملك لا تحسد، ولا يحقد، ولا ينعم نعمة ثم يفسد نعمته. قال: فرأيته قد كره قولي وزوى «١» وجهه عني.
قال إسحاق: فعلمت أنه سيوقع بهم، ثم انصرفت فكتمت الخبر فلم يسمع به أحد، وتجنبت لقاء يحيى والبرامكة خوفا أن يظن أني أفضي إليهم بسرّه، حتى قتلهم، وكان أشدّ ما كان إكراما لهم؛ وكان قتلهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم.
[يحيى ومنكة الهندي:]
وكان يحيى بن خالد بن برمك قد اعتلّ قبل النازلة التي نزلت بهم، فبعث إلى منكة الهندي فقال: ماذا ترى في هذه العلة؟ فقال منكة: داء كبير دواؤه يسير، والصبر أيسر؛ وكان متفنّنا. فقال له يحيى: ربما ثقل على السمع «٢» خطرة الحق به، وإذا كان ذلك كان الهجر له ألزم من المفاوضة [فيه] . قال منكة: لكنني أرى في الطالع أثرا والأمد فيه قريب، وأنت قسيم في المعرفة، وربما كانت صورة النجم عقيمة لا نتاج لها، ولكن الأخذ بالحزم أوفى لحظّ الطالبين. قال يحيى: الأمور منصرفة إلى العواقب، وما حتم فلا بد أن يقع، والمنعة بمسالمة الأيام نهزة «٣» ، فاقصد ما دعوتك له من هذا الأثر الموجود بالمزاج. قال منكة: هي الصفراء مازجتها