فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج، فلما كان بالعشي أتاه بريد من اليمن بوفاة محمد أخيه: ففرح أهل العراق، وقالوا: انقطع ظهر الحجاج وهيض «١» جناحه فخرج فصعد المنبر ثم خطب الناس. فقال:
أيها الناس، محمدان في يوم واحد! أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة؛ وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى. والجديد أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تدال «٢» الأرض منا كما أدلنا منها فتأكل من لحومنا، وتشرب من دمائنا. كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها. ثم نكون كما قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ
«٣» . ثم تمثل بهذين البيتين:
عزائي نبيّ الله من كلّ ميّت ... وحسبي ثواب الله من كلّ هالك
إذا ما لقيت الله عنّي راضيا ... فإنّ سرور النّفس فيما هنالك
ثم نزل، وأذن للناس فدخلوا عليه يعزونه. ودخل فيهم الفرزدق. فلما نظر إليه قال: يا فرزدق، أما رثيت محمدا ومحمدا؟ قال: نعم أيها الأمير وأنشد:
لئن جزع الحجّاج، ما من مصيبة ... تكون لمحزون أمضّ وأوجعا.. «٤»
.. من المصطفى والمنتقى من نقاية ... جناحاه لمّا فارقاه وودّعا
جناحا عتيق فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا «٥»
ولو أنّ يومي جمعتيه تتابعا ... على شامخ صعب الذّرى لتصدّعا
سميّا رسول الله سمّاهما به ... أب لم يكن عند الحوادث أخضعا