وخلفائهم أحدا يفي بالمأمون، ولا شاهدت من النساء امرأة كبوران في عقلها؛ وأما معرفتها وأدبها فما أظن من يتهيّأ له أن يقف من العلوم على ما وقفت عليه ولقد سألت بعض من يتولى خدمتها من العجائز: ما حملها على ما أرى؟ فقالت: إنها تفعل ذلك منذ كذا وكذا سنة، ولقد عاشرت الظرفاء والملاح والأدباء أكثر من أن يقع عليه إحصاء، ولم يكن جرى بينها وبين أحد مكروه ولا خنا «١» ولا كلمة قبيحة؛ ولم يكن مذهبها في ذلك إلا حب الأدب والمذاكرة، ومعاشرة الظرفاء وأهل المروءة والأقدار والنّبل والأخطار، لا لريبة تظهر، ولا لحالة تنكر. قال: فو اللَّه لقد تضاعف قدرها عندي، وعظم خطرها في نفسي، وعلمت شرف همتها وفضلها.
فهذا خبر بوران صحيحا على الحقيقة، وسبب تزوّج المأمون بها.
[فتى من بني حنيفة وجارية]
قال هشام بن الكلبي والهيثم بن عدي: إن ناسا من بني حنيفة خرجوا يتنزهون إلى جبل لهم، فرأى فتى منهم في طريقه جارية، فرمقها وقال لأصحابه: لا أنصرف واللَّه حتى أرسل إليها وأخبرها بحبي لها! فطلبوا إليه أن يكف فأبى، وأقبل يراسل الجارية؛ وتمكن حبها من قلبه، فانصرف أصحابه وأقام الفتى في ذلك الجبل، فمضى إليها ليلة متقلدا سيفا وهي بين أخوين لها نائمة، فأيقظها؛ فقالت: انصرف لئلا ينتبه أخواي فيقتلاك! فقال: الموت أهون واللَّه مما أنا فيه، ولكن أعطيني يدك أضعها على قلبي وأنصرف! فأعطته يدها، فوضعها على قلبه وانصرف؛ فلما كانت الليلة الثانية، أتاها وهي على مثل تلك الحال، فأيقظها، فقالت له مثل مقالها الأوّل، فقال:
لك اللَّه إن أمكنتني من شفتيك أرشفهما أن أنصرف! فأمكنته فرشفهما ثم انصرف؛ فوقع في قلبها من حبه مثل ما كان به ...
وفشا خبرهما في الحيّ، فقال أهل الجارية: ما مقام هذا الفاسق في هذا الجبل؟